714ـ خطبة الجمعة: الصدقات سبب لتنزل الرحمات

714ـ خطبة الجمعة: الصدقات سبب لتنزل الرحمات

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يَتَسَابَقُونَ في الإِنْفَاقِ، وَفي كَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ، تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهُ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾.

كَانُوا يَتَسَابَقُونَ في الإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الشُّحِّ الذي يُهْلِكُ العِبَادَ وَالبِلَادَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

كَانُوا يَتَسَابَقُونَ في الإِنْفَاقِ حَتَّى يَصِلُوا إلى مَرْتَبَةِ الإِحْسَانِ، وَلِيَشْرُفُوا بِالانْدِرَاجِ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

الصَّدَقَاتُ سَبَبٌ لَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الصَّدَقَاتِ الزَّائِدَةَ عَنِ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ مِنَ اللهِ تعالى، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟

قَالَ: فُلَانٌ ـ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ـ

فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟

فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟

قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ».

يَا عِبَادَ اللهِ: الصَّدَقَاتُ الزَّائِدَةُ عَنِ الزَّكَاةِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ». وَحَقًّا صَانِعُ الْمَعْرُوفِ لَا يَقَعُ، وَإِذَا وَقَعَ وَجَدَ مُتَّكَأً.

يَا عِبَادَ اللهِ: الصَّدَقَاتُ الزَّائِدَةُ عَنِ الزَّكَاةِ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا في ظِلِّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، عِنْدَمَا تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤُوسِ بِمِقْدَارِ مِيلٍ، وَيَخُوضُ النَّاسُ بِعَرَقِهِمْ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ الْقُبُورِ، وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا تَحْتَقِرُوا مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، مَهْمَا كَانَ قَلِيلًا، فَرُبَّ مَبْلَغٍ قَلِيلٍ تُنْفِقُهُ مَعَ إِخْلَاصِكَ للهِ تعالى يَتَقَبَّلُهُ اللهُ تعالى مِنْكَ، وَيُرَبِّيهِ لَكَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ (مُهْرَهُ، وَهُوَ الصَّغِيرُ مِنَ الخَيْلِ) حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الصَّدَقَاتُ الزَّائِدَةُ عَنِ الزَّكَاةِ تَكُونُ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وِقَاءً مِنَ النَّارِ، وَنَجَاةً مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى، روى الإمام مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».

يَا عِبَادَ اللهِ: تَصَدَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَتَحَسَّرُ أَحَدُنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، حَيْثُ لَا تَنْفَعُ الحَسْرَةُ، وَاحْفَظُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ تَنْجَلِي الحَقِيقَةُ التي نَسِينَاهَا أَو تَنَاسَيْنَاهَا، نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى أَجْرِ الصَّدَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَةِ الفَقِيرِ إلى صَدَقَتِنَا، لِأَنَّ هَذَا العَبْدَ الذي قَالَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾. وَاللهِ مَا قَالَهَا رَحْمَةً بِالفُقَرَاءِ، بَلْ قَالَهَا رَحْمَةً بِنَفْسِهِ تَحَسُّراً عَلَى مَا قَصَّرَ فِي حَقِّ الفَقِير وَمَا فَوَّتَ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الأَجْرِ.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ النَّادِمِينَ.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 12/ ذو القعدة /1441هـ، الموافق: 3/تموز / 2020م