166ـ اغتنام الفرص شأن العقلاء

166ـ اغتنام الفرص شأن العقلاء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مَوَاسِمَ للطَّاعَاتِ، يَتَنَافَسُ فِيهَا المُتَنَافِسُونَ، وَيَتَقَرَّبُ فِيهَا المُتَقَرِّبُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ تعالى وَرَحْمَةً، وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.

مِنْ هَذِهِ المَوَاسِمِ أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، فَهِيَ أَيَّامٌ مُعَظَّمَةٌ في شَرْعِ اللهِ تعالى، وَلَهَا خُصُوصِيَّةٌ في مَزِيدِ الطَّاعَاتِ وَالإِحْسَانِ، وَقَدْ نَوَّهَ اللهُ تعالى بِهَا في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وَالمُرَادُ بِهَا عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، وَقَالَ تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾. وَالمُرَادُ بِالأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ هِيَ عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ.

وروى الإمام أحمد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ».

وَيَقُولُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا.

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا.

وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ؛ وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي المَسْجِدِ. رواه الإمام البخاري.

تَزَوَّدُوا مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: في هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَزَوَّدَ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا، مِنْ أَهَمِّ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَثْرَةُ السُّجُودِ، روى الإمام مسلم عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، فَسَكَتَ؛ ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ؛ ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ للهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً».

وَكَذَلِكَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الصِّيَامُ لِمَنْ قَدِرَ عَلَيْهِ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ العَصِيبَةِ، روى الإمام أحمد عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.

وَأَفْضَلُهَا وَآكَدُهَا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اغْتِنَامُ الفُرَصِ شَأْنُ العُقَلَاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اغْتِنَامُ الفُرَصِ شَأْنُ العُقَلَاءِ، أَمَّا التَّفْرِيطُ في الوَقْتِ هَذَا مِنْ شَأْنِ الغَافِلِينَ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

الغَافِلُ عَنْ فُرَصِ الحَيَاةِ يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ الأُجُورَ المُضَاعَفَةَ، وَالتي قَدْ يَسُدُّ بِهَا نَقْصًا كَبِيرًا مِنَ الخَلَلِ الذي يَعْتَرِضُ الفَرَائِضَ وَالوَاجِبَاتِ التي نَقُومُ بِهَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَيَاةُ عَلَّمَتْ كُلَّ عَاقِلٍ أَنْ لَا يُضَيِّعَ فُرْصَةً في طَاعَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ لَهُ سُكُونٌ، وَكُلَّ مُقْبِلٍ لَهُ إِدْبَارٌ، وَكُلَّ حَيٍّ مِنَ المَخْلُوقَاتِ آتِيهِ المَوْتُ.

اغْتَنِمُوا فُرَصَ الحَيَاةِ بِالطَّاعَاتِ، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ القِيلِ وَالقَالِ، وَفي أَيَّامِ الشَّائِعَاتِ، وَفي أَيَّامٍ كَثُرَ فِيهَا الوَهْمُ وَالهُمُومُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العَاقِلُ هُوَ الذي لَا يُسَوِّفُ، العَاقِلُ هُوَ الذي يُفَكِّرُ دَائِمًا وَأَبَدًا في المَبْدَأِ الذي يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

مَنْ يَضْمَنُ أَنْ يَبْقَى لِغَدٍ؟ وَإِنْ ضَمِنْتَ أَنْ تَبْقَى إِلى الغَدِ هَلْ تَضْمَنُ أَنْ لَا تَأْتِيكَ العَوَارِضُ وَالمَعُوقَاتُ؟

سَوِّفْ لِلدُّنْيَا لَا حَرَجَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُسَوِّفَ لِآخِرَتِكَ لِأَنَّ الغَدَ قَدْ لَا يَأْتِيكَ، وَقَدْ يُدْرِكُكَ المَوْتُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَنْ عَبْدٍ مُخْبِرًا عَنْهُ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

وَقَدْ قَالَ قَائِلُهُمْ:

وَلَا تُؤَخِّرْ إِذَا مَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ   ***   فَهُمْ يَقُولُونَ لِلتَّأَخِيرِ آفَاتُ

وَقَالَ غَيْرُهُ:

عَلَيْكَ بَأَمْرِ اليَوْمِ لَا تَنْتَظِرْ غَدًا   ***   فَمَنْ لِغَدٍ مِنْ حَادِثٍ بِكَفِيْلِ

وَقَالَ آخَرُ:

وَلا أُأَخِّرُ شُغْلَ اليَوْمِ عَنْ كَسَلٍ   ***   إلى غَدٍ إِنَّ يَوْمَ العَاجِزِينَ غَدُ

اللَّهُمَّ يَا رَبَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا تَشْغَلْنَا عَنْكَ بِشَيْءٍ، وَاجْعَلْ هَمَّنَا رِضَاكَ وَالجَنَّةَ، وَفِّقْنَا يَا رَبَّنَا لِاغْتِنَامِ هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 1/ ذو الحجة /1441هـ، الموافق: 22/ تموز / 2020م