717ـ خطبة الجمعة: الأضحية عبادة قديمة

717ـ خطبة الجمعة: الأضحية عبادة قديمة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ وَبِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا نَعِيشُ أَيَّامًا مُبَارَكَةً، وَأَيَّامًا فَاضِلَةً، أَيَّامَ عَـشْرِ ذِي الحِجَّةِ، تِلْكُمُ الأَيَّامُ التي أَقْسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا في كِتَابِهِ العَزِيزِ، فَقَالَ: ﴿وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾.

هَذِهِ الأَيَّامُ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا لَهُ فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الأَيَّامِ، قَالَ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

فَالأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ في هَذِهِ الأَيَّامِ لَهَا مَزِيدُ فَضْلٍ وَكَرَمٍ وَجُودٍ، وَالأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ تَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ يُحِبُّهُ اللهُ تعالى، مِنْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ، وَتِلَاوَةِ قُرْآنٍ، وَصَدَقَةٍ، وَصِيَامِ نَافِلَةٍ، وَذِكْرٍ للهِ تعالى.

الأُضْحِيَةُ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الأُضْحِيَةُ مِنْ جُمْلَةِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلى اللهِ تعالى، وَهِيَ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ تَعَبَّدَ اللهُ تعالى بِهَا الأُمَمَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَنْسَكًا، قَالَ تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾. أَيْ: جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ مَنْسَكًا، شَرِيعَةً في الذَّبْحِ.

وَبِالنِّسْبَةِ لِأُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سُنَّةَ الأَضَاحِي التي هِيَ سُنَّةُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،

قَالَ اللهُ تعالى مُبَيِّنًا هَذا النُّسُكَ: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

وَقَدْ حَثَّنَا عَلَيْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وروى ابن ماجه عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟

قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».

قَالُوا: فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «بِكُلِّ شَعَرَةٍ، حَسَنَةٌ».

قَالُوا: فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ».

يَا عِبَادَ اللهِ: سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ شَأْنَ هَذِهِ الأُضْحِيَةِ وَعَظَّمَهُ، لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ تعالى، وَمِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ اللهِ تعالى، فَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا مُدَّةَ بَقَائِهِ في المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، مُنْذُ هَاجَرَ إِلَيْهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ تعالى.

يَقُولُ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ يُضَحِّي كُلَّ سَنَةٍ. رواه الترمذي.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعْلِنُ هَذِهِ الأُضْحِيَةَ وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهَا، روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ؛ قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، وَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا؛ قَالَ: وَسَمَّى وَكَبَّرَ.

كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْحَرُ وَيَذْبَحُ بِالمُصَلَّى، يُرِيدُ إِعْلَانَ هَذِهِ السُّنَّةَ وَإِظْهَارَهَا وَالرَّفْعَ مِنْ شَأْنِهَا.

حُكْمُ الأُضْحِيَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاؤُنَا أَنَّ الأُضْحِيَةَ يَدُورُ حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ بَيْنَ الوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ المُؤَكَّدَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وروى الإمام مسلم عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْتُ الْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ».

الأُضْحِيَةُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَصَّ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الأُضْحِيَةَ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالحَنَابِلَةِ.

يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: لَأَنْ أُضَحِّيَ بِشَاةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِئَةِ دِرْهَمٍ.

وَيَقُولُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: الضَّحِيَّةُ عِنْدَنَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّ الأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ وَكِيدَةٌ كَصَلَاةِ العِيدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاةَ العِيدِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ النَّوَافِلِ، وَكَذَلِكَ صَلَوَاتُ السُّنَنِ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوُّعِ كُلِّهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ إِيثَارُ الصَّدَقَةِ عَلَى الأُضْحِيَةِ يُفْضِي إلى تَرْكِ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ مِنْ سُنَنِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإلى تَرْكِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ.

الأُضْحِيَةُ حَافَظَ عَلَيْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَرَكَهَا، وَكَذَلِكَ الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ مَا تَرَكُوهَا مِنْ بَعْدِهِ، وَلَو عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ لَتَرَكُوا الأُضْحِيَةَ وَتَصَدَّقُوا، وَلَكِنَّهُمُ الْتَزَمُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الأُضْحِيَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ أَو وَاجِبَةٌ عِنْدَ بَعْضِ الفُقَهَاءِ، وَذَبْحُهَا أَفْضَلُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَافَظَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَدَعْهَا أَبَدًا، بَلْ لَمَّا دَفَّتِ الدَّافَّةُ بِالمَدِينَةِ (الدَّافَّةُ قَوْمٌ يَسِيرُونَ جَمِيعًا سَيْرًا خَفِيفًا) وَنَزَلَ بِهَا الفُقَرَاءُ، نَهَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَدَّخِرُوا فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ إِطْعَامِ الفُقَرَاءِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِقِيمَتِهَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للتَّقَرُّبِ إِلَيْكَ بِالأَضَاحِي، وَنَسْأَلُكَ يَا مَوْلَانَا أَنْ تَصْرِفَ عَنَّا الغَلَاءَ وَالبَلَاءَ وَالوَبَاءَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 3/ ذو الحجة /1441هـ، الموافق: 24/تموز / 2020م