20ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾

20ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾.

مَا وَرَدَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ:

جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ مِمَّا رواه ابْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا.

قَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ.

قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعْ.

قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ.

قَالَ: لَا وَاللهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ؛ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ (يَعْنِي الكَلَامَ الخَفِيَّ الذي لَا يُسْمَعُ) وَلَا سَجْعِهِ.

قَالُوا: فَنَقُولُ: مَجْنُونٌ.

قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونِ؛ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا تَخَالُجِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ.

قَالُوا: فَنَقُولُ: شَاعِرٌ.

قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرِ؛ لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ، رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ.

قَالُوا: فَنَقُولُ: سَاحِرٌ.

قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرِ؛ لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ.

قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟

قَالَ: وَاللهِ إنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ (العَذْقُ: النَّخْلَةُ) وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ ـ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ لَغَدِقٌ (الغَدِقُ: المَاءُ الْكثيرُ) ـ وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ، جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ، فَتُفَرِّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ.

فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ، لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا حَذَّرُوهُ إيَّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ.

فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ذَرْنِي وَمن خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيدًا﴾ أَيْ خَصِيمًا.

وروى الإمام الحاكم في المُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا.

قَالَ: لِمَ؟

قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ؛ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ.

قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا.

قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ.

قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؛ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ.

قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ.

قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ.

فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثُرُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَنَزَلَتْ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

وروى الأَصْبَهَانِيُّ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا عَجَبًا لِمَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، فَوَاللهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا سِحْرٍ وَلَا بِهُذَاءٍ مِثْلِ الْجُنُونِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لَمِنْ كَلَامِ اللهِ.

فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ائْتَمَرُوا وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ صَبَأَ الْوَلِيدُ لَتَصْبُوَنَّ قُرَيْشٌ.

فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ قَالَ: وَاللهِ أَنَا أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ؛ فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ لِلْوَلِيدِ: أَلَمْ تَرَ قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ؟

قَالَ: أَلَسْتُ أَكْثَرَهُمْ مَالًا وَوَلَدًا؟

قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنِّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَتُصِيبُ مِنْ طَعَامِهِ.

قَالَ الْوَلِيدُ: قَدْ تَحَدَّثَتْ بِهِ عَشِيرَتِي، فَلَا أَقْرَبُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ.

وَجَاءَ في تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَنَّهُ قَالَ: وَمَا قَوْلُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ.

فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾.

هَذَا الوَعِيدُ الرَّبَانِيُّ جَاءَ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ خِطَابٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالعِنَادِ، الذينَ يُخَالِفُونَ قَنَاعَاتِهِمْ، وَيُصِرُّونَ عَلَى البَاطِلِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ وُضُوحِ الحَقِّ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.

فَهَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَاتُ وَإِنْ نَزَلَتْ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَن يَجْعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 10/ رجب /1441هـ، الموافق: 5/آذار / 2020م