67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

67ـ وجوب توقيرهما وتكريمهما

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا.

كَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا وَاجِبًا عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمِ الصَّغِيرَ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ» رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

إِذَا كَانَ هَذَا بِشَكْلٍ عَامٍّ في حَقِّ الكَبِيرِ، فَكَيْفَ بِالوَالِدَيْنِ؟

وروى البيهقي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ، وَقِّرِ الْكَبِيرَ وَارْحَمِ الصَّغِيرَ تُرَافِقْنِي فِي الْجَنَّةِ».

وروى الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ».

وَيَقُولُ أَبُو الحَسَنِ المَدَائِنِيُّ: لَمَّا وَلِيَ زِيَادٌ العِرَاقَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ خِلَالًا ثَلَاثًا، نَبَذْتُ إِلَيْكُمْ فِيهِنَّ النَّصِيحَةَ: رَأَيْتُ إِعْظَامَ ذَوِي الشَّرَفِ، وَإِجْلَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَوْقِيرَ ذَوِي الْأَسْنَانِ، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللهَ عَهْدًا، لَا يَأْتِينِي شَرِيفٌ بِوَضِيعٍ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ حَقَّ شَرَفِهِ إِلَّا عَاقَبْتُهُ، وَلَا يَأْتِينِي كَهْلٌ بِحَدَثٍ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ حَقَّ فَضْلِ سِنِّهِ عَلَى حَدَاثَتِهِ إِلَّا عَاقَبْتُهُ، وَلَا يَأْتِينِي عَالِمٌ بِجَاهِلٍ لَاحَاهُ فِي عِلْمِهِ لِيُهَجِّنَهُ عَلَيْهِ إِلَّا عَاقَبْتُهُ؛ فَإِنَّمَا النَّاسُ بِأَشْرَافِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ، وَذَوِي أَسْنَانِهُمْ. رواه الخَرَائِطِيُّ في مَكَارِمٍ الأَخْلَاقِ.

إِذَا كَانَ هَذَا التَّوْقِيرُ وَالتَّكْرِيمُ في حَقِّ أَكَابِرِ القَوْمِ، فَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَيْكَ مِنْ وَالِدَيْكِ بَعْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَخِيرَةِ خَلْقِ اللهِ تعالى؟

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ يُجَسِّدُ لَنَا كَيْفَ يَكُونُ تَوْقِيرُ الوَالِدَيْنِ وَتَكْرِيمُهُمَا، يَقُولُ اللهُ تعالى مُظْهِرًا هَذَا التَّكْرِيمَ وَالتَّوْقِيرَ: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾.

فَفِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

أولًا: إِيوَاؤُهُ لِأَبَوَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ثانيًا: قَوْلُهُ لِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾.

ثالثًا: رَفْعُهُ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ مَعَهُ، أَيْ: أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّكْرِيمِ وَالتَّوْقِيرِ وَالاحْتِرَامَ، كَمَا أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَنْسَ أَنَّهُ كَانَ في بَادِيَةٍ كَأَهْلِهِ، لِذَا ذَكَرَ مِنَّةَ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، خُرُوجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَمَجِيئَهُمْ مِنَ البَادِيَةِ ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ فَصَارَ عَزِيزَ مِصْرَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ وَالِدَيْهِ أَحْسَنَ اسْتِقْبَالٍ، وَرَفَعَهُمَا عَلَى سَرِيرِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ سُلْطَانُهُ وَمَكَانَتُهُ مِنَ الخُرُوجِ لِاسْتِقْبَالِهِمْ، ثُمَّ رَفْعِهِمْ وَإِعْلَاءِ مَنْزِلَتِهِمْ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَوَى الإِمَامُ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعِرَّانَةِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: هَذِهِ أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.

وروى أبو داود أَنَّ عُمَرَ بْنَ السَّائِبِ، حَدَّثَ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَلَدُ، وَمَنَ الْجَفَاءِ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ وَالِدَهُ بِاسْمِهِ. رواه البيهقي.

فَكَيْفَ بِمَنْ يُنَادِي وَالِدَهُ: يَا حَجِّي؟!

في الخِتَامِ: قَدْرُ الوَالِدَيْنِ في دِينِنَا عَظِيمٌ وَعَظِيمٌ جِدًّا، لِأَنَّ رَحْمَةَ الوَالِدَيْنِ بِالوَلَدِ لَا تُقَدَّرُ، كَتَبَ رَجُلٌ إلى أَبِيهِ رِسَالَةً، وَكَتَبَ في آخِرَهَا: جُعِلْتُ فِدَاكَ.

فَبَكَى الوَالِدُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلًا: لَا تَكْتُبْ هَكَذَا بَعْدَ اليَوْمِ، فَأَنْتَ عَلَى يَوْمِي أَصْبَرُ مِنِّي عَلَى يَوْمِكَ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ بِرِّ الوَالِدَيْنِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 13/ رجب /1441هـ، الموافق: 8/ آذار / 2020م