57ـ آداب المريض (2)

57ـ آداب المريض (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ آدَابِ المَرِيضِ:

سابعاً: رَدُّ المَظَالِمِ إلى أَهْلِهَا:

مِنَ الوَاجِبِ عَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يَرُدَّ المَظَالِمَ إلى أَهْلِهَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَذِمَّتُهُ بَرِيئَةٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ، لِأَنَّ حُقُوقَ العِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ، وَحُقُوقُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُسَامَحَةِ، فَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ الذي يَرُدُّ المَظَالِمَ إلى أَهْلِهَا.

وَقَدْ روى الإمام مسلم عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَلَا تَدْعُو اللهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ؟

قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ.

مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ: أَنَّكَ لَسْتَ بِسَالِمٍ مِنَ الغُلُولِ ـ السَّرِقَةِ ـ فَقَدْ كُنْتَ وَالِيَاً عَلَى البَصْرَةِ، وَتَعَلَّقَتْ بِكَ تَبِعَاتٌ مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُقُوقِ العِبَادِ، وَلَا يُقْبَلُ الدُّعَاءُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، كَمَا لَا تُقْبَلُ الصَّدَقَةُ وَالصَّلَاةُ إِلَّا مِنْ مُتَصَوِّنٍ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ أَنَّهُ قَصَدَ زَجْرَ ابْنِ عَامِرٍ وَحَثَّهُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَحَرَّضَهُ عَلَى الإِقْلَاعِ عَنِ المُخَالَفَاتِ، وَلَمْ يُرِدِ القَطْعَ حَقِيقَةً بِأَنَّ الدُّعَاءَ للفُسَّاقِ لَا يَنْفَعُ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفُ وَالخَلَفُ يَدْعُونَ للكُفَّارِ وَأَصْحَابِ المَعَاصِي بِالهِدَايَةِ وَالتَّوْبَةِ.

ثامناً: أَنْ يَعْفُوَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ:

لِأَنَّ خُلُقَ المُسْلِمِ العَفْوُ وَالصَّفْحُ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَتَمَثَّلُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾. وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾.

وَيَتَمَثَّلُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» رواه الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا بِشَكْلٍ عَامٍّ وَبِشَكْلٍ خَاصٍّ في سَاعَةِ المَرَضِ، لِأَنَّ المَرِيضَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِأَنْ يُعَامِلَهُ اللهُ تعالى بِالفَضْلِ لَا بِالعَدْلِ، وَمَنْ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى أَنْ يُعَامِلَهُ اللهُ تعالى بِالفَضْلِ فَلْيُعَامِلْ خَلْقَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالفَضْلِ لَا بِالعَدْلِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَصْلَحَةِ العَبْدِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّوْجِيهُ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾.

روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَمْزَةَ فَنَظَرَ إِلَى مَا بِهِ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ تَحْزَنَ النِّسَاءُ مَا غَيَّبْتُهُ، وَلَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي بُطُونِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطُّيُورِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِمَّا هُنَالِكَ».

قَالَ: وَأَحْزَنَهُ مَا رَأَى بِهِ، فَقَالَ: «لَئِنْ ظَفَرْتُ بِقُرَيْشٍ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ رَجُلَاً مِنْهُمْ».

فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾.

ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَهُيِّءَ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْهِ تِسْعَاً، ثُمَّ جَمَعَ عَلَيْهِ الشُّهَدَاءَ كُلَّمَا أُتِي بِشَهِيدٍ وُضِعَ إِلَى حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَعَلَى الشُّهَدَاءِ مَعَهُ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى الشُّهَدَاءِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ صَلَاةً، ثُمَّ قَامَ عَلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى وَارَاهُمْ، وَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَفَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَجَاوَزَ وَتَرَكَ الْمُثْلَةَ.

وَجَاءَ التَّوْجِيهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلأُمَّةِ كُلِّهَا بِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾. بَلَى وَاللهِ نُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَنَا، وَمَنْ صَدَقَ في مَحَبَّةِ مَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ فَلْيَغْفِرْ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.

مَرِضَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدِّينِ، فَقَالَ: أَخْزَى اللهُ تعالى مَالَاً يَمْنَعُ الإِخْوانَ مِنَ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيَاً فَنَادَى مَنْ كَانَ عَلَيْهِ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ حَقٌّ فَهُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ، قَالَ: فَانْكَسَرَتْ دَرَجَتُهُ بِالعَشِيِّ لِكَثْرَةِ مِنْ زَارَهُ وَعَادَهُ. اهـ. / إحياء علوم الدين.

سُبْحَانَ اللهِ مَا أَجْمَلَ الفَضْلَ في التَّعَامُلِ، وَخَاصَّةً لِمَنْ كَانَ مَرِيضَاً وَهُوَ بِحَاجَةٍ إلى رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنْ آدَابِ المَرِيضَ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعْلِمَهُ بِذَلِكَ.

تاسعاً: أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ:

العَبْدُ بِحَاجَةٍ إلى زِيَادَةٍ في القُرُبَاتِ وَالحَسَنَاتِ، وَأَنْ يَتَدَارَكَ مَا سَلَفَ مِنْ تَفْرِيطٍ في حَيَاتِهِ مِنْ أَعْمَالِ الخَيْرِ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ في عَمَلِهِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ المَرَضُ وَخَافَ البَيَانَ احْتَاجَ إلى تَلَافِي مَا فَرَّطَ مِنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ بِمَالِهِ.

روى الإمام أحمد عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ».

وروى الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ».

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.

فَيَا أَخِي الحَبِيبُ: إِذَا كَانَتْ كِتَابَةُ الوَصِيَّةَ مُسْتَحَبَّةً للسَّلِيمِ، فَكَيْفَ لَا تَكْتُبُهَا وَأَنْتَ مَرِيضٌ، وَخَاصَّةً الوَصِيَّةَ الوَاجِبَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ حُقُوقٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ زَكَاةٍ أَو نَذْرٍ أَو كَفَّارَةٍ أَو حَجٍّ، أَو حُقُوقٍ للعِبَادِ؟ فَلَا تُضَيِّعْ حُقُوقَ اللهِ تعالى وَلَا حَقَّ أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ، وَأَوْصِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَى أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ، وَلْيَكُنْ صَدَقَةً جَارِيَةً أَو في عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ.

هَذَا إِذَا كُنْتَ غَنِيَّاً، أَمَّا إِذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ قَلِيلٍ وَلَكَ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالأَفْضَلُ أَلَّا تُوصِي وَصِيَّةَ نَافِلَةٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» رواه الشيخان.

لِأَنَّ الوَصِيَّةَ في هَذِهِ الحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً للأَبَاعِدِ، وَتَرْكَاً للأَقَارِبِ، وَإِذَا تَرَكْتَ الوَصِيَّةَ في هَذِهِ الحَالَةِ تَكُونُ وَصَلْتَ أَقَارِبَكَ، وَهَذَا الأَفْضَلُ.

وَلَا تُوصِ لِأَحَدٍ مِنَ الوَرَثَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَأَوْصِ أُصُولَكَ وَفُرُوعَكَ وَزَوْجَكَ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَعْدِكَ، وَأَنْ يَذْكُرُوكَ بِدَعْوَةٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَكُونُوا مِمَّنِ الْتَزَمَ شَرْعَ اللهِ تعالى، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَمَاسِكِينَ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى لَا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ، وَأَنْ يُوَزِّعُوا التَّرِكَةَ بَعْدَ المَوْتِ مُبَاشَرَةً وَأَلَّا يُؤَخِّرُوا ذَلِكَ حَتَّى لَا يَتَقَاطَعُوا.

وَأَشْهِدْ عَلَى وَصِيَّتِكَ وَلْتَكُنْ وَصِيَّتُكَ بِوُضُوحٍ لَا غُمُوضَ فِيهَا، وَلْيَكُنْ وَصِيُّكَ مِمَّنْ يَخَافُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

عَاشِرَاً: وَصَايَا لِمَنْ شَعَرَ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ ـ وَكُلُّنَا قَدْ دَنَا مِنَّا الأَجَلُ ـ نَسْأَلُ اللهَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِ الأَذْكَارِ:

بَابُ مَا يَقُولُهُ مَنْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ.

رُوِينَا في كِتَابِ الترمذي، وَسُنَنِ ابْنِ ماجه، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالمَوْتِ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي القَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالمَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى غَمَرَاتِ المَوْتِ أَوْ سَكَرَاتِ المَوْتِ».

وَرُوِينَا في صَحِيحَيِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ».

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ القُرْآنِ وَالأَذْكَارِ، وَيُكْرَهُ لَهُ الجَزَعُ، وَسُوءُ الخُلُقِ، وَالشَّتْمُ، وَالمُخَاصَمَةُ، وَالمُنَازَعَةُ في غَيْرِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ شَاكِرَاً للهِ تعالى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَيَسْتَحْضِرَ في ذِهْنِهِ أَنَّ هَذَا الوَقْتَ آخِرُ أَوْقَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَجْتَهِدَ عَلَى خَتْمِهَا بِخَيْرٍ، وَيُبَادِرَ إلى أَدَاءِ الحُقُوقِ إلى أَهْلِهَا: مِنْ رَدِّ المَظَالِمِ وَالوَدَائِعِ وَالعَوَارِي، وَاسْتِحْلَالِ أَهْلِهِ: مِنْ زَوْجَتِهِ، وَوَالِدَيْهِ، وَأَوْلَادِهِ، وَغِلْمَانِهِ، وَجِيرَانِه، وَأَصْدِقَائِهِ، وَكُلِّ مَنْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ أَو مُصَاحَبَةٌ، أَو تَعَلُّقٌ في شَيْءٍ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِأُمُورِ أَوْلَادِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَدٌّ يَصْلُحُ للوِلَايَةِ، وَيُوصِيَ بِمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهِ في الحَالِ، مِنْ قَضَاءِ بَعْضِ الدُّيُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى أَنَّهُ يَرْحَمُهُ، وَيَسْتَحْضِرَ في ذِهْنِهِ أَنَّهُ حَقِيرٌ في مَخْلُوقَاتِ اللهِ تعالى، وَأَنَّ اللهَ تعالى غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَعَنْ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ، وَلَا يَطْلُبُ العَفْوَ وَالإِحْسَانَ وَالصَّفْحَ وَالامْتِنَانَ إِلَّا مِنْهُ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاهِدَاً نَفْسَهُ بِقِرَاءَةِ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ العَزِيزِ في الرَّجَاءِ، وَيَقْرَأُهَا بِصَوْتٍ رَقِيقٍ، أَو يَقْرَأُهَا لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ يَسْتَمِعُ.

وَكَذَلِكَ يَسْتَقْرِئُ أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ، وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَآثَارَهُمْ عِنْدَ المَوْتِ، وَأَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ مُتَزَايِدَاً، وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَشَقَّةِ ذَلِكَ، وَلْيَحْذَرْ مِنَ التَّسَاهُلِ في ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ أَقْبَحِ القَبَائِحِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ مِنَ الدُّنْيَا التي هِيَ مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ التَّفْرِيطَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَو نُدِبَ إِلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلَ مَنْ يَخْذُلُهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الصَدِيقُ الجَاهِلُ العَدُوُّ الخَفِيُّ، فَلَا يَقْبَلْ تَخْذِيلَهُ، وَلْيَجْتَهِدْ في خَتْمِ عُمُرِهِ بِأَكْمَلِ الأَحْوَالِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ في مَرَضِهِ، وَاحْتِمَالِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ، وَيُوصِيهِمْ أَيْضَاً بِالصَّبْرِ عَلَى مُصِيبَتِهِمْ بِهِ، وَيَجْتَهِدُ في وَصِيَّتِهِمْ بِتَرْكِ البُكَاءِ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: صَحَّ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَإِيَّاكُمْ يَا أَحِبَّائِي وَالسَّعْيَ في أَسْبَابِ عَذَابِي.

وَيُوصِيهِمْ بِالرِّفْقِ بِمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْ طِفْلٍ وَغُلَامٍ وَجَارِيَةٍ وَغَيْرِهِمْ، وَيُوصِيهِمْ بِالإِحْسَانِ إلى أَصْدِقَائِهِ وَيُعَلِّمُهُمْ أَنَّهُ صَحَّ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَصَحَّ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْرِمُ صُواحِباتِ خَدِيْجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بَعْدَ وَفَاتِهَا.

وَيُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابَاً مُؤَكَّدَاً أَنْ يُوصِيَهُمْ بِاجْتِنَابِ مَا جَرَتِ العَادَةُ بِهِ مِنَ البِدَعِ في الجَنَائِزِ، وَيُؤَكِّدُ العَهْدَ بِذَلِكَ.

وَيُوصِيهِمْ بِتَعَاهُدِهِ بِالدُّعَاءِ وَأَنْ لَا يَنْسَوْهُ بِطُولِ الأَمَدِ.

وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ في وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ: مَتَى رَأَيْتُمْ مِنِّي تَقْصِيرَاً في شَيْءٍ فَنَبِّهُونِي عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، وَأَدُّوا إِلَيَّ النَّصِيحَةَ في ذَلِكَ، فَإِنِّي مُعَرَّضٌ للغَفْلَةِ وَالكَسَلِ وَالإِهْمَالِ، فَإِذَا قَصَّرْتُ فَنَشِّطُونِي، وَعَاوِنُونِي عَلَى أُهْبَةِ سَفَرِي هَذَا البَعِيدِ.

وَإِذَا حَضَرَهُ النَّزْعُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لِيَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ.

فَقَد رُوِينَا في الحَدِيثِ المَشْهُورِ في سُنَنِ أَبِي داود وَغَيْرِهِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» قَالَ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ في كِتَابِهِ المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَخِي الحَبِيبَ المَرِيضَ: أَسْأَلُ اللهَ تعالى لَنَا وَلَكُمُ الصِّحَّةَ وَالعَافِيَةَ وَحُسْنَ الخِتَامِ، وَنَرْجُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنَّا.

أَخِي الحَبِيبَ المَرِيضَ: تَذَكَّرْ أَنَّكَ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ فَمَا أَبْقَاهُ اللهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَ، وَمَا أَخَذَهُ مِنْكَ مِنْ صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ لَكَ في ذَلِكَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى، فَاحْتَسِبِ الأَمْرَ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَقُلْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ لِي.

نَسْأَلُ اللهَ تعالى العَافِيَةَ وَدَوَامَهَا مَعَ كَمَالِ الاسْتِقَامَةِ حَتَّى نِهَايَةِ الأَجَلِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 4/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 28/ كانون الثاني / 2020م