32ـ نواقض الوضوء (1)

32ـ نواقض الوضوء (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

نَوَاقِضُ الوُضُوءِ:

النَّوَاقِضُ جَمْعُ نَاقِضٍ أَو نَاقِضَةٍ.

يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ في الأَجْسَامِ، وَفي المَعَانِي، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ في الأَجْسَامِ فَالمُرَادُ بِهِ: إِبْطَالُ تَأْلِيفِهَا، كَنَقْضِ الحَائِطِ.

وَإِذَا اسْتُعْمِلَ في المَعَانِي كَانَ المُرَادُ بِهِ: مَا يُخْرِجُهَا عَنْ إِفَادَةِ المَقْصُودِ مِنْهَا كَاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ.

وَالوُضُوءُ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ، وَنَحْوِهَا مِنَ القُرُبَاتِ كَمَسِّ المُصْحَفِ، وَالطَّوَافِ حَوْلَ الكَعْبَةِ، فَنَاقِضُهُ هُوَ مَا يَجْعَلُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِإِفَادَةِ تِلْكَ العِبَادَاتِ، وَالقِيَامِ بِهَا.

وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الوُضُوءِ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الآتِي:

أولًا: الخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، أَو خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُمَا:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ كُلَّ خَارِجٍ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، مِنْ بَوْلٍ أَو غَائِطٍ نَاقِضٌ للوُضُوءِ ـ وَالغَائِطُ حَقِيقَةً: المَكَانُ المُطمئِنُّ الُمنْخَفِضُ الذي يَقْضِي فِيهِ النَّاسُ حَاجَتَهُمْ ـ وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ مُرَادَةً، فَجُعِل مَجَازًا عَنِ الأَمْرِ المُحْوِجِ إِلَى المَكَانِ المُطْمَئِنِّ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ.

أَو خُرُوجَ رِيحٍ، أَو مَذْيٍ، أَو وَدْيٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُعْتَادًا خُرُوجُهُ أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ، كَالدُّودَةِ وَالحَصَاةِ وَالدَّمِ، عَدَا رِيحِ القُبُلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ نَاقِضٍ للرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَعِثُ عَنْ نَجَاسَةٍ.

وَدَلِيلُ نَقْضِ الوُضُوءِ مِنْ كُلِّ خَارِجٍ مِنَ السَّبِيلَيْنِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثانيًا: الوِلَادَةُ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ الدَّمِ:

المَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا لَا تُعْتَبَرُ نُفَسَاءَ، لِأَنَّ النِّفَاسَ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّمِ وَلَمْ يُوجَدْ، عَلَيْهَا الوُضُوءُ للرُّطُوبَةِ، وَلَكِنَّ الإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الغُسْلَ احْتِيَاطًا، لِعَدَمِ خُلُوِّهِ عَنْ قَلِيلِ دَمٍ غَالِبًا، فَنَزَلَ الغَالِبُ مَنْزِلَةَ المُتَحَقِّقِ.

ثالثًا: خُرُوجُ الدَّمِ، أَو القَيْحِ، أَو الصَّدِيدِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:

وَالسَّيَلَانُ في السَّبِيلَيْنِ: بِالظُّهُورِ عَلَى رَأْسِهِمَا؛ وفي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ: بِتَجَاوُزِ النَّجَاسَةِ إلى مَحَلٍّ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ وَلَوْ نَدْبًا، فَلَا يَنْقُضُهُ دَمٌ سَالَ في دَاخِلِ العَيْنِ إلى جَانِبٍ آخَرَ مِنْهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلى عَدَمِ نَقْضِ الوُضُوءِ بِالدَّمِ وَنَحْوِهِ، لِمَا ورى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ.

وَالحَنَفِيَّةُ ذَهَبُوا إلى أَنَّ القَلِيلَ هُوَ الذي لَمْ يَسِلْ عَنِ الجُرْحِ.

رابعًا: قَيْءُ الطَّعَامِ أَو المَاءِ إِذَا مَلَأَ الفَمَ:

روى الإمام الزَّيْلَعِيُّ في نَصْبِ الرَّايَةِ ـ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُعَادُ الوُضُوءُ مِنْ سَبْعٍ: مِنْ إقْطَارِ البَوْلِ، وَالدَّمِ السَّائِلِ، وَالقَيْءِ، وَمِنْ دَسْعَةٍ تَمْلَأُ الفَمَ (الدَّسْعُ: الدَّفْعُ) وَنَوْمِ المُضْطَجِعِ، وَقَهْقَهَةِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ، وَخُرُوجِ الدَّمِ».

وَحَدُّ مِلْءِ الفَمِ: هُوَ مَا لَا يُطْبِقُ عَلَيْهِ الفَمُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ.

وَلَو قَاءَ عَلَى فَتَرَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ بِحَيْثُ إِذَا جُمِعَتْ بَلَغَتْ مِلْءَ الفَمِ: انْتَقَضَ وُضُوءُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إِذَا اتَّحَدَ سَبَبُ القَيْءِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِذَا اتَّحَدَ المَكَانُ، وَالأَوَّلُ هُوَ الأَصَحُّ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْرَ مِلْءِ الفَمِ فَلَا يَنْتَقِضُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلى عَدَمِ نَقْضِ الوُضُوءِ بِالقَيْءِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلِأَنَّ مَا يُبْطِلُ قَلِيلُهُ لَا يُبْطِلُ كَثِيرُهُ كَالجُشَاءِ، وَعِنْدَ تَعَارُضِ الأَقْوَالِ: يَنْبَغِي أَنْ نُحَاوِلَ الجَمْعَ بَيْنَهَا مَا أَمْكَنَ، فَيُحْمَلُ الحَدِيثُ الذي يَتَمَسَّكُ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى القَلِيلِ مِنَ القَيْءِ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الوُضُوءُ، وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الحَنَفِيَّةُ.

وَلِأَنَّ الفَمَ تَجَاذَبَ فِيهِ دَلِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ ظَاهِرًا، لِأَنَّهُ إِذَا فَتَحَ فَاهُ يَظْهَرُ، وَيُفْتَرَضُ غَسْلُهُ في الغُسْلِ، فَلَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ.

وَثَانِيهِمَا: يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاطِنًا، لِأَنَّهُ إِذَا أَغْلَقَ فَمَهُ كَانَ بَاطِنًا، وَإِذَا ابْتَلَعَ الصَّائِمُ رِيقَهُ لَم يَفْسُدْ صَوْمُهُ، لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ البَاطِنِ، فَعَمِلْنَا بِالجِهَتَيْنِ.

فَقُلْنَا إِذَا كَثُرَ القَيْءُ اعْتُبِرَ الفَمُ خَارِجًا فَيَنْتَقِضُ، وَإِذَا قَلَّ اعْتُبِرَ بَاطِنًا فَلَا يَنْتَقِضُ.

خامسًا: ظُهُورُ دَمٍ مِنْ جُرْحٍ بِالفَمِ:

وَيَنْقُضُ الوُضُوءَ أَيْضًا ظُهُورُ دَمٍ مِنْ جُرْحٍ بِالفَمِ غَلَبَ عَلَى الرِّيقِ أَو سَاوَاهُ، وَيَكُونُ الدَّمُ غَالِبًا إِذَا كَانَ الرِّيقُ شَدِيدَ الحُمْرَةِ، وَيَكُونُ مُسَاوِيًا إِذَا كَانَ قَلِيلَ الحُمْرَةِ، وَيَكُونُ مَغْلُوبًا إِذَا كَانَ أَصْفَرَ.

وَلَا يَنْتَقِضُ في كُلِّ الحَالَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَو كَانَ كَثِيرًا.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 9/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 26/تشرين الأول / 2020م