11ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (6)

11ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (6)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَقَدَتِ السَّيِّدَةُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا زَوْجَهَا الحَبِيبَ سَيِّدَنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ بَعْدَ زَوَاجِهَا مِنْهُ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ جِدًّا.

وَحَزِنَتْ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، كَمَا حَزِنَتْ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ عَلَيْهِ، وَالكُلُّ في حَيْرَةٍ، لِمَاذَا هَذَا المَوْتُ السَّرِيعُ، بَعْدَ الفِدَاءِ الذي كَانَ لَهُ؟

مَنْ كَانَ يَظُنُّ حِينَ نُحِرَتِ الإِبِلُ المِئَةُ بِالحَرَمِ، وَتُرِكَتْ لَا يُصَدُّ عَنْهَا إِنْسَانٌ وَلَا سَبُعٌ، أَنَّ المَنَايَا وَاقِفَةٌ بِالمِرْصَادِ للذَّبِيحِ المُفتَدَى، عَلَى قَيْدِ خُطُوَاتٍ مَعْدُودَاتٍ؟

وَفي مِثْلِ هَذَا كَانَتْ السَّيِدَةُ آمِنَةُ تُفَكِّرُ، وَهِيَ في وَحْدَتِهَا تُكَابِدُ أَحْزَانَهَا، وَتُقاسي الذي تَجِدُ مِنْ شِدَّةِ المُصَابِ، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهَا، فَتَتَابَعَ أَهْلُهَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يُعَزُّوهَا، وَهِيَ تَأْبَى أَنْ تَقْبَلَ في عَبْدِ اللهِ عَزَاءً.

وَنَاشَدُوهَا الصَّبْرَ الجَمِيلَ، فَأَنْكَرَتْ عَلَى نَفْسِهَا الصَّبْرَ، كَأَنَّهَا وَجَدَتْ فِيهِ خِيَانَةً لِذِكْرَى الحَبِيبِ الذي رَحَلَ.

وَأَوْجَسَ آلُ هَاشِمٍ وَزُهْرَةَ في نُفُوسِهِمْ خِيفَةً، أَنْ تَشْتَدَّ وَطْأَةُ الحُزْنِ عَلَى آمِنَةَ فَتَذْهَبَ بِهَا، وَلَبِثَتْ مَكَّةُ شَهْرًا وَبَعْضَ شَهْرٍ، وَهِيَ تَرْقُبُ في قَلَقٍ، إلى أَيْنَ تَنْتَهِي الأَحْزَانُ بِالأَرْمَلَةِ العَرُوسِ.

حَتَّى كَانَتْ لَيْلَةٌ مِن ْليَالِي شَوَّالٍ، أَحَاطَ فِيهَا العُوَّادُ بِفِرَاشِ آمِنَةَ، وَهِيَ في غَمْرةِ أَحْزَانِهَا لَا تَفْتَأُ تُسَائِلُ كُلَّ وَافِدٍ وَوَافِدَةٍ مِنْ أَهْلِهَا: فِيمَ كَانَ العُرْسُ الحَافِلُ، وَيَدُ القَدَرِ تَحْفِرُ لَهُ لَحْدَهُ بِيَثْرِبَ؟

عَلَى أَنَّهَا مَا لَبِثَتْ أَنْ أُلْهِمَتْ في نَجْوَاهَا: كَأَنِّي عَرَفْتُ سِرَّ الذي كَانَ، إِنَّ عَبْدَ اللهِ لَمْ يُفْتَدَ مِنَ الذَّبْحِ عَبَثًا، لَقَدْ أَمْهَلَهُ اللهُ تعالى رَيْثَمَا يُودِعُنِي هَذَا الجَنِينَ الذي أَحْسَسْتُ بِهِ اللَّحْظَةَ حَيًّا في رَحِمِي، وَالذي مِنْ أَجْلِهِ يَجِبُ أَنْ أَعِيشَ.

وَمِنْ تِلْكَ اللَّحْظَةِ المُبَارَكَةِ، أَنْزَلَ اللهُ تعالى سَكِينَتَهُ عَلَى آمِنَةَ فَطَوَتْ أَحْزَانَهَا في أَعْمَاقِهَا، وَبَدَأَتْ تُفَكِّرُ في ابْنِهَا الذي يَحْيَا بِهَا وَيُحْيِيهَا.

عَامُ الفِيلِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقَدَّمَتْ بِالسَّيِّدَةِ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا أَشْهُرُ الحَمْلِ، حَتَّى إِذَا أَوْشَكَ أَنْ يَتِمَّ أَجَلُهُن جَاءَهَا عَبْدُ المُطَّلِبِ ذَاتَ أَصِيلٍ، يَطْلُبُ إِلَيْهَا أَنْ تَتَهَيَّأَ للخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مَعَ قُرَيْشٍ، حَيْثُ رَأَى لَهُمْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا في شَعَفِ الجِبَالِ وَالشِّعَابِ، تَخَوُّفًا مِنْ مَعَرَّةِ الجَيْشِ الذي جَاءَ بِهِ أَبْرَهَةُ الحَبَشِيُّ مِنَ اليَمَنِ.

وَكَانَتْ آمِنَةُ قَدْ سَمِعَتْ بِقُدُومِ أَبْرَهَةَ هَذَا في جَيْشٍ لَجِبٍ، لَكِنَّهَا لَمْ تُقَدِّرِ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الخَطَرِ حَدًّا يَدْفَعُ قُرَيْشًا إلى الخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِمُ الأَمِينِ.

وَسَأَلَتْ آمِنَةُ عَبْدَ المُطَّلِبِ، عَلِمْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ وَهُذَيْلًا وَمَنْ بِالحَرَمِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قِتَالِ الطَّاغِيَةِ، فَمَا الذي جَدَّ في المَوْقِفِ حَتَّى يَتْرُكُوا الكَعْبَةَ لَا يُقَاتِلُونَ عَنْهَا؟

قَالَ: عَرَفُوا أَلَّا طَاقَةَ لَهُمْ بِأَبْرَهَةَ، فَكَرِهُوا مَعْرَكَةً غَيْرَ مُتَكَافِئَةٍ، تَضْعُفُ فِيهَا قُرَيْشٌ أَمَامَ العَدُوِّ، ثُمَّ تَؤُوبُ بِعَارِ الهَزِيمَةِ.

وَسَكَتَتْ آمِنَةُ بُرْهَةً، ثُمَّ تَذَكَّرَتْ مَا سَمِعَتْ عَنْ لِقَاءٍ كَانَ بَيْنَ شَيْخِ مَكَّةَ وَطَاغِيَةِ الأَحْبَاشِ، فَعَادَتْ تَسْأَلُ عَمَّا تَمَّ في ذَاكَ اللِّقَاءِ.

فَأَجَابَهَا الشَّيْخُ: أَجَلْ، كانَ بَيْنَنَا لِقَاءٌ، سَعَى إِلَيْهِ أَبْرَهَةُ، وَلَمْ أَسْعَ إِلَيْهِ، ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ بَلَغَ مَشَارِفَ مَكَّةَ، بَعَثَ حُنَاطَةَ الحِمْيَرِيَّ وَقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ البَلَدِ وَشَرِيفِهَا، ثُمَّ قُلْ لَهُ: إِنَّ المَلِكَ يَقُولُ لَكَ: إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا البَيْتِ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ؛ فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ.

وَجَاءَنِي حُنَاطةُ فَأَبْلَغَنِي رِسَالَةَ أَبْرَهَةَ وَتَلَقَّى جَوَابِي:

وَاللهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللهِ الحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبْرَهَةَ، فَوَاللهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ.

قَالَ حُنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ مَعِي، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ.

فَفَعَلْتُ، وَمَعِي بَعْضُ أَبْنَائِي، وَهُنَاكَ مَضَى بِهِ إلى أَبْرَهَةَ أَحَدُ رِجَالِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا المَلِكُ: هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتأْذِنُ عَلَيْكَ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ في السَّهْلِ، وَالوُحُوشَ في رُؤُوسِ الجِبَالِ.

فأَكْرَمَنِي أَبْرَهَةُ عَنْ أَنْ أَجْلِسَ دُونَهُ، وَكَأَنَّمَا كَرِهَ في الوَقْتِ نَفْسِهِ أَنْ تَرَانِي الحَبَشَةُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ وَأَجْلَسَنِي إلى جَانِبِهِ، ثُمَّ قَالَ لَتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟

فَلَمَّا أَجَبْتُ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ المَلِكُ مِئَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي . . . بَدَا عَلَى المَلِكِ، كَأَنَّمَا صَغُرْتُ في عَيْنِهِ، وَخَيَّبْتُ ظَنَّهُ فِيَّ، وَقَالَ لَتَرْجُمَانِهِ في جَفْوَةٍ: قُلْ لَهُ: قَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي؛ أَتُكَلِّمُنِي في مِئَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟

قُلْتُ عَلَى الفَوْرِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الإِبِلِ، وَإِنَّ للبَيْتِ رَبًّا يَحْمِيهِ.

قَالَ الفَاجِرُ مُدِلًّا بِقُوَّتِهِ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي.

فَأَجَبْتُهُ مُتَحَدِّيًا: أَنْتَ وَذَاكَ.

وَكَانَ مَعِي سَيِّدُ هُذَيْلٍ، فَعَرَضَ عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَهْدِمَ البَيْتَ، فَأَبَى مُتَكَبِّرًا وَاكْتَفَى بِأَنْ أَمَرَ بِرَدِّ إِبِلِي إِلَيَّ.

وَانْصَرَفْنَا، فَحَدَّثْتُ قُرَيْشًا بِالخَبَرِ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ قُمْتُ فَأَخذْتُ بِحَلْقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعِيَ نَفرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ.

وَأَطْرَقَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لَحْظَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ وَرَدَّدَ في ضَرَاعَةٍ أَبْيَاتَهُ التي قَالَهَا وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ:

لَاهُمَّ إِنَّ الـــعَـبْـدَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ

جَرُّوا جُمُوعَ بِلَادِهِمْ وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِـيَالَكْ

إِنْ كُــنْــتَ تَــارِكَهُمْ وَكَعْبَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ

يَـــا رَبِّ لَا أَرْجُــــو لَهُمْ سِــوَاكَــــــــــا

يَــــا رَبِّ فَـامْــنَــعْ مِنْهُمُ حِمَاكَــــــــــــا

إِنَّ عَـدُوَّ الـــبَـيْــتِ مَـــنْ عَادَاكَــــــــــا

امْنَعْهُمُ أَنْ يُــــخَــرِّبُوا فَــــنَـــاكَـــــــــا

فَرَدَّدَتْ آمِنَةُ مِنْ بَعْدِهِ:

يَـــا رَبِّ لَا أَرْجُــــو لَهُمْ سِــوَاكَــــــــــا

ثُمَّ وَدَّعَهَا الشَّيْخُ وَخَرَجَ، عَلَى أَنْ يَبْعثَ إِلَيْهَا في غَدٍ مَنْ يَصْحَبُهَا في خُرُوجِهَا لِتَلْحَقَ بِالجَمْعِ الرَّاحِلِ إلى الشِّعْبِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَخَلَتْ آمِنَةُ في نَفْسِهَا تُفَكِّرُ في الجَنِينِ الغَالِي الذي قَارَبَتْ أَنْ تَضَعَهُ، فَعَزَّ عَلَيْهَا أَنْ تلِدَهُ بَعِيدًا عَنِ البَلَدِ الحَرَامِ، وَفي غَيْرِ دَارِ أَبِيهِ عبْدِ اللهِ.

وَكَانَ هَذَا الخَاطِرُ بِحَيْثُ يُقْلِقُ مَضْجَعَهَا وَيُسْهِرُ لَيْلَتَهَا، لَكِنَّهَا أَوَتْ إلى فِرَاشِهَا وَمَا يَتَخَلَّى عَنْهَا إِيمَانُهَا بِأَنَّ اللهَ تعالى مَانِعٌ بَيْتَهُ؛ وَمَتَى كَانَ للطَّاغِينَ وَالجَبَابِرَةِ عَلَى البَلَدِ الحَرَامِ سَبِيلٌ؟

وَنَامَتْ مُطْمَئِنَّةً، حَتَّى انْبَلَجَ الصُّبْحُ وَهِيَ تَتَمَنَّى أَلَّا تَبْرَحَ مَكَانَهَا مِنْ جِوَارِ الحَرَمِ، إلى أَنْ يَقْضِيَ اللهُ أَمْرَه

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 6/ رجب /1442هـ، الموافق: 18/ شباط / 2021م