12ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (7)

12ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (7)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ عَبْدُ المُطَّلِبِ مِنْ عِنْدِ أَبْرَهَةَ، عَادَ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا الخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ بِالخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَرُّزِ في شَعَفِ الجِبَالِ (شَعَفُ الجِبَالِ: رُؤُوسُهَا) وَالشِّعَابِ، (الشِّعَابُ: المَوَاضِعُ الخَفِيَّةُ مِنَ الجِبَالِ) تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ ـ شِدَّةِ ـ الجَيْشِ.

ثُمَّ قَامَ عَبْدُ المُطَّلِبِ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللهَ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ، فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ:

لَاهُمَّ إِنَّ الـــعَـبْـدَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ ـ يَعْنِي القَوْمَ الَّذِينَ حَلُّوا بِهِ ـ.

لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ ـ المِحَالُ يَعْنِي القُوَّةَ وَالشِّدَّةَ، وَغَدْوًا يَعْنِي الغَدَ ـ.

وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكَ.

دُخُولُ أَبْرَهَةَ مَكَّةَ، وَمَا وَقَعَ لَهُ وَلِفِيَلِهِ:

فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ وَعَبَّى جَيْشَهُ (أي: جَهَّزَهُ) وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا، وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الانْصِرَافِ إلَى الْيَمَنِ.

فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إلَى مَكَّةَ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ حَتَّى قَامَ إلَى جَنْبِ الْفِيلِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: ابْرُكْ مَحْمُودُ، أَوْ ارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللهِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ.

فَبَرَكَ الْفِيلُ، وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ ـ عَلَا ـ وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بالطَّبَرْزِينَ ـ آلَةٌ مُعَقَّفَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ـ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ ـ جَمْعُ مِحْجَنٍ، وَهِيَ عَصًا مِعْوَجَّةٌ، وَقَدْ يُجْعَلُ فِي طَرَفِهَا حَدِيدٌ ـ لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ ـ يَعْنِي أَسْفَلَ بَطْنِهِ ـ فَبَزَغُوهُ بِهَا ـ أَدْمَوْهُ ـ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ البَحْرِ أَمْثَالَ الخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ (الخَطَاطِيفُ: جَمْعُ خُطَّافٍ، وَهُوَ طَائِرٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ: زَوَّارُ الهِنْد، وَهُوَ الذي تَدْعُوهُ العَامَّةُ عُصْفُورَ الجنَّةِ؛ وَالْبَلَسَانُ الزَّرَازِيرُ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الخُشَنِيُّ فِي شَرْحِهِ: وَالخَطَاطِيفُ وَالبَلْشُونُ ضَرْبَانِ مِنَ الطَّيْرِ) مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالُ الحِمَّصِ وَالعَدَسِ، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلَّهُمْ أَصَابَتْ؛ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّذِي مِنْهُ جَاؤُوا، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إلَى اليَمَنِ، فَقَالَ نُفَيْلٌ حِينَ رَأَى مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ:

أَيْنَ المَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ   ***   وَالأَشْرَمُ المَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ

فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلِكُونَ بِكُلِّ مَهْلِكٍ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ تَسْقُطُ أَنَامِلُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً (أَيْ يَنْتَثِرُ جِسْمُهُ؛ وَالأُنْمُلَةُ: طَرَفُ الأُصْبُعِ، وَتُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ، كَالجُزْءِ الصَّغِيرِ مِنَ الشَّيْءِ) كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِنْهُ مِدَّةٌ تَمُثُّ ـ تَرْشَحُ ـ قَيْحًا وَدَمًا، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ.

وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ عَلَى كَعْبَتِهَا المُقَدَّسَةِ تَطِيفُ بِهَا حَامِدَةً شَاكِرَةً، وَتَجَاوَبَتْ أَرْجَاءُ البَلَدِ الأَمِينِ بِدَعَوَاتِ المُصَلِّينَ وَأَنَاشِيدِ الشُّعَرَاءِ:

فَـتَـنَـكَّـلُوا عَـنْ بَـطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا    ***   كَـانَـتْ قَـدِيمًا لَا يُـرَامُ حَرِيمُهَا

سَائِلْ أَمِيَرَ الْجَيْشِ عَـنْهَا مَا رَأَى   ***   فَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِيـنَ عَلِيمُهَا

سِـتُّــونَ أَلْـفًا لَمْ يَؤُوبُوا أَرْضَهُمْ   ***   بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا

وَبَلَغَتِ الأَصْدَاءُ مَسْمَعَ آمِنَةَ فَقَامَتْ تَدْعُو وَقَدْ أَشْرَقَ وَجْهُهَا بِنُورِ اليَقِينِ وَالإِيمَانِ، وَأَحَسَّتْ غِبْطَةَ الفَرَحِ، أَنِ اسْتَجَابَ اللهُ تعالى لِدُعَائِهَا، فَلَمْ يَكْتُبْ لِوَلَدِهَا ابْنِ عَبْدِ اللهِ أَنْ يُولَدَ بَعِيدًا عَنِ الحَرَمِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ هَذَا الحَدَثِ وُجُوبَ الثِّقَةِ، وَأَنْ تَمْتَلِئَ القُلُوبُ ثِقَةً مُطْلَقَةً بِاللهِ تعالى، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الذي يُدَبِّرُ أَمْرَ الكَوْنِ هُوَ اللهُ تعالى، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَنْ لَا نَظُنَّ أَنَّ اللهَ تعالى قَدْ خَلَقَ الخَلْقَ وَغَفَلَ عَنْهُمْ، حَاشَا للهِ، بَلْ لَا يَقَعُ في الكَوْنِ إِلَّا مَا يُرِيدُ، وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.

اللهُ تعالى هُوَ الذي يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَهُوَ الذي يُمْطِرُ الرَّحَمَاتِ، وَهُوَ الذي يَدْفَعُ الكُرُبَاتِ، وَهُوَ المَلِكُ وَمَالِكُ المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ وَالمُلُوكِ، وَجَبَّارُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

فَأَيْنَ أَبْرَهَةُ الحَبَشِيُّ وَأَصْحَابُ الفِيلِ؟ بَلْ أَيْنَ عَادٌ وَأَيْنَ ثَمُودُ؟ وَأَيْنَ فِرْعَوْنُ وَقَارُونُ وَهَامَانُ؟ أَيْنَ مَنْ دَوَّخُوا الدُّنْيَا بِسَطْوَتِهِمْ وَذِكْرِهِمْ في الوَرَى؟ ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.

اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَنَا ثِقَةً بِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 13/ رجب /1442هـ، الموافق: 25/ شباط / 2021م