54ـ ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾

54ـ ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَسْتَفِيدُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّ الحِرْصَ لَيْسَ مَذْمُومًا بِشَكْلٍ عَامٍّ، بَلْ مِنْهُ المَحْمُودُ، كَمَا قَالَ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ». فَهَذَا حِرْصٌ مَحْمُودٌ.

وَأَمَّا الحِرْصُ المَذْمُومُ، فَهُوَ مَا كَانَ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَا نَفْعَ فِيهِ، أَو مَا كَانَ ضَرَرُهُ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ، فَمِثْلُ هَذَا الحِرْصِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُذَمَّ صَاحِبُهُ، وَقَدْ نَسَبَهُ اللهُ تعالى لليَهُودِ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾.

الحِرْصُ الإِيجَابِيُّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَأْتِي التَّوْجِيهُ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وإلى الدُّعَاةِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنْ يَكُونَ حِرْصُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِدَايَةِ القَوْمِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ عَلَى شَخْصِهِ الكَرِيمِ، فَيَقُولُ تعالى لَهُ في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾. وَفي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِفُؤَادِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا يُعْرِضُ النَّاسُ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾. وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾.

فَاللهُ تعالى لَا يُرِيدُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هِدَايَةَ البَشَرِ بِيَدِ اللهِ تعالى، وَقُلُوبُ البَشَرِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، فَلَا يَمْلِكُ إِلَّا البَلَاغَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾. وَقَالَ: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ﴾؟

﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُعَلِّمُنَا أَنَّ الدُّنْيَا مَزِيجٌ فِيهَا المُؤْمِنُ وَالكَافِرُ، فِيهَا الطَّائِعُ وَالعَاصِي، فِيهَا الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى التَّدَافُعِ، وَالمُؤْمِنُ مُطَالَبٌ وَلَو كَانَ وَحْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللهِ تعالى، مَعَ الحَقِّ، وَلَو كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى ضَلَالٍ، فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَجَاءَنَا بِأَنْبَاءٍ مِنَ المَاضِي وَالغَيْبِ السَّحِيقِ، لِتَكُونَ دُرُوسًا عَمَلِيَّةً لِجَمِيعِ الدُّعَاةِ إلى اللهِ تعالى، وَلِكَيْ لَا يُفَاجَؤُوا إِذَا شَاهَدُوا إِعْرَاضَ الكَثِيرِ عَنِ الحَقِّ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبِثَ في قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَعَلَانِيَةً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾. وَمَعَ ذَلِكَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، رَغْمَ احْتِكَاكِهِ بِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُ في بَيْتِهِ يُشَارِكُهُ المَأْكَلَ وَالمَشْرَبَ، وَيَرَى مِنْهُ الكَمَالَ، وَكَانَ حَرِيصًا كُلَّ الحِرْصِ عَلَى سَلَامَةِ الجَمِيعِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ، حَتَّى اللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ، حَيْثُ خَاطَبَ وَلَدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾. غَايَةٌ في العُقُوقِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى الأُبُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ الحَقَّ مَعَ القِلَّةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» رواه الإمام مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الحَقِّ بِالكَثْرَةِ، فَإِنَّ الكَثْرَةَ لَمْ تَكُنْ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ الحَقِّ أَبَدًا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الآيَاتِ الكَرِيمَةَ في القُرْآنِ وَهِيَ تَتَحَدَّثُ عَنِ الكَثْرَةِ فَإِنَّهُ يَجِدُ أَنَّ الكَثْرَةَ هِيَ الهَالِكَةُ ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ القِلَّةِ النَّاجِيَةِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 24/ رجب /1442هـ، الموافق: 8/ آذار / 2021م