194ـ محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

194ـ محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

مَحَبَّةُ الصَّحَابَةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

فَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ عِبَادَهُ بِالعِقَابِ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالفِسْقِ، فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ هَذِهِ الأَصْنَافِ المَرْغُوبَةِ المَحْبُوبَةِ، أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ!

بَلِ الوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ!

وَأَعْظَمُ صُورَةٍ وَاقِعِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَجْلَى مَظْهَرٍ ظَهَرَتْ فِيهِ تِلْكَ الحَقِيقَةُ الأَحَبَّيَّةُ للهِ تعالى وَلِرَسُولِهِ: هُمْ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ تعالى وَجْهَهُ، وَقَدْ سُئِلَ: كَيْفَ كَانَ حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِن أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا، وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ المَاءِ البَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ.

وَتَحَقَّقُوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا .. » الحَدِيثَ.

وَقَدْ بَذَلُوا نُفُوسَهُمْ إِيمَانَاً بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحُبَّاًً فِيهِ، وَقَدَّمُوهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللهُ تعالى وَشَرَعَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ . .﴾. الآيَةَ.

بَلْ رَغْبَتُهُمْ بِنَفْسِهِ هِيَ المُقَدَّمَةُ عَلَى رَغْبَتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَحُبُّهُمْ لِنَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ حُبِّهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الوَقَائِعُ، وَشَهِدَتْ لَهُمُ الشَّوَاهِدُ.

وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ أَطْرَافَاً مُوجَزَةً:

أَوَّلَاً: إِيثَارُهُمْ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَقْدِيمِهِمْ لَهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ: وَمِنْ ذَلِكَ: قِصَّةُ زَيْدِ بْنِ الدَّثِنَّةِ، كَمَا رَوَاهَا أَصْحَابُ السِّيَرِ، وَرَوَاهَا البَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا أَخْرَجَ المُشْرِكُونَ في مَكَّةَ زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَّةِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ بِالتَّنْعِيمِ ـ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ في الحَرَمِ تَعْظِيمَاً لَهُ ـ وَقَدِ اجْتَمَعَ في الطَّرِيقِ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَّةِ، فَتَوَاصَيَا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى مَا يَلْحَقُهُمَا مِنَ المَكَارِهِ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ـ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ ـ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَّةِ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ ـ أَيْ: أَسْأَلُكَ بِالله ـ يَا زَيْدُ: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدَاً الآنَ عِنْدَنَا مَكَانَكَ، تُضْرَبُ عُنُقُهُ، وَأَنَّكَ في أَهْلِكَ ـ أَيْ: آمِنَاً مِنَ القَتْلِ ـ.

فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدَاً الآنَ في مَكَانِهِ الذي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ، وَأَنِّي جَالِسٌ في أَهْلِي!.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدَاً مِنَ النَّاسِ يُحِبُّ أَحَدَاً كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدَاً!.

فَقَدْ آثَرَ زَيْدٌ أَنْ يُقْتَلَ، وَلَا يُصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَقَلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَذَى.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ نَاشَدُوا بِذَلِكَ خُبَيْبَاً.

فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَفْدِيَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشَوْكَةٍ في قَدَمِهِ.

وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ ذَلِكَ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِكُلٍّ مِنْ خُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَّةِ.

وَفِي المُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَرْمِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ يَتَتَرَّسُ بِهِ، وَكَانَ رَامِيَاً، وَكَانَ إِذَا رَمَى رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَخْصَهُ يَنْظُرُ أَيْنَ يَقَعُ سَهْمُهُ، وَيَرْفَعُ أَبُو طَلْحَةَ صَدْرَهُ، وَيَقُولُ: هَكَذَا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَا يُصِيبُكَ سَهْمٌ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ.

وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَسُورُ نَفْسَهُ ـ أَيْ: يَجْعَلُ نَفْسَهُ سُورَاً ـ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ: إِنِّي جَلْدٌ ـ أَيْ: شَدِيدٌ ـ يَا رَسُولَ اللهِ، فَوَجِّهْنِي فِي حَوَائِجِكَ، وَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ.

وَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ ـ كَمَا حَكَاهُ في الشِّفَا وَغَيْرِهِ ـ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ قُتِلَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا وَزَوْجُهَا، شُهَدَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَتْ: لَمَّا أُخْبِرْتُ بِذَلِكَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ السُّؤَالِ عَنْ سَلَامَتِهِ وَبَقَائِهِ، وَعَبَّرَتْ بِذَلِكَ تَأَدُّبَاً، لِأَنَّ الفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ الحَيَاةَ ـ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: قَالَتْ: مَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ.

قَالُوا: خَيْرَاً هُوَ بِحَمْدِ اللهِ كَمَا تُحِبِّينَ.

أَيْ: هُوَ سَالِمٌ مَنْصُورٌ مُظَفَّرٌ.

فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا رَأَتْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ ـ أَيْ: بَعْدَ سَلَامَتِكَ وَرُؤْيَتِكَ ـ جَلَلٌ ـ أَيْ: هَيِّنٌ حَقِيرٌ ـ كَمَا في النِّهَايَةِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 22/ صفر /1442هـ، الموافق: 9/تشرين الأول / 2020م