48ـ ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾

48ـ ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا نِعْمَةَ حَاسَّةِ الشَّمِّ بِوَاسِطَةِ الأَنْفِ، حَيْثُ أَوْدَعَ اللهُ تعالى فِيهِ حَاسَّةَ الشَّمِّ، وَبِهَا تُدْرَكُ الرَّوَائِحُ الطَّيِّبَةُ وَالخَبِيثَةُ وَالنَّافِعَةُ وَالضَّارَّةُ.

وَحَاسَّةُ الشَّمِّ عِنْدَ الإِنْسَانِ قَاصِرَةٌ، فَهُنَاكَ بَعْضُ المَخْلُوقَاتِ تَكُونُ عِنْدَهَا حَاسَّةُ الشَّمِّ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنَ حَاسَّةِ الشَّمِّ عِنْدَ الإِنْسَانِ، وَإِذَا شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يَجْعَلَ الإِنْسَان يَشُمُّ مَا لَا يَشُمُّهُ غَيْرُهُ فَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَكْرَمُ مَا يَجِدُهُ العَبْدُ رِيحَ الجَنَّةِ، أَمَا قَالَ ذَاكَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ.

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ النَّضْرِ تَغَيَّبَ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: تَغَيَّبْتُ عَنْ أَوَّلِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَئِنْ رَأَيْتُ قِتَالًا لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَقْبَلَ أَنَسٌ، فَرَأَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْروٍ، أَيْنَ؟ أَيْنَ؟ قُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَحَمَلَ حَتَّى قُتِلَ.

فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا اسْتَطَعْتُ مَا اسْتَطَاعَ.

فَقَالَتْ أُخْتُهُ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، وَلَقَدْ كَانَتْ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ ضَرْبَةً، مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾. إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

وَالمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ رِيحَ الجَنَّةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا».

وَمِنَ الرِّيحِ الطَّيِّبِ رِيحُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، روى ابْنُ سَعْدٍ ـ كَمَا في كَنْزِ العُمَّالِ ـ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَشَمِمْتُ الْعِطْرَ كُلَّهُ، فَلَمْ أَشُمَّ نَكْهَةً أَطْيَبَ مِنْ نَكْهَتِهِ.

﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الرِّيحِ الطَّيِّبِ رِيحُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ يَفُوحُ مِنْ قَمِيصِهِ، وَلَكِنْ مَا يَشُمُّهُ كُلُّ أَحَدٍ.

عِنْدَمَا عرَفَ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَاهُمْ يُوسُفَ، قَالَ لِإِخْوَتِهِ: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾.

مَا هُوَ السِّرُّ في هَذَا القَمِيصِ؟

مُعْجِزَةٌ مِنَ المُعْجِزَاتِ، خَارِجَةٌ عَنْ طَوْرِ العَقْلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَلَّلَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَخْضَعَ لِمَقَايِيسِ العَقْلِ، لَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، قَالَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ في فِلَسْطِينَ: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾. يَعْنِي: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، وَرَائِحَتُهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتُشِيرُ إلى قُرْبِ لِقَائِيِ بِهِ لَوْلَا أَنْ تَنْسِبُونِي إلى الفَنَدِ وَضَعْفِ العَقْلِ وَالخَرَفِ.

مَنْ حَوْلَهُ كَانُوا لَا يشُمُّونَ شَيْئًا، بَلِ الذينَ حَمَلُوا القَمِيصَ لَمْ يَشُمُّوا شَيْئًا، لِذَلِكَ قَالُوا لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾. أَيْ: مَا زِلْتَ غَارِقًا في حُبِّكَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَكُونُ الثِّقَةُ بِاللهِ تعالى، سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَنَّهُ سَيَلْتَقِي مَعَ وَلَدِهِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْطِي إِخْوَتَهُ القَمِيصَ، وَهُوَ جَازِمٌ أَنَّ وَالِدَهُ سَيَأْتِي بَصِيرًا ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾.

سُبْحَانَ مُغَيِّرِ الأَحْوَالِ، هُمْ ذَهَبُوا بِقَمِيصِهِ الأَوَّلِ لِوَالِدِهِمْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ مُلَطَّخٌ بِدَمٍ كَذِبٍ، وَالآنَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْطِيهِمْ قَمِيصَهُ هَذَا مُحَمَّلًا بِالشِّفَاءِ.

فَفِي القَمِيصِ الأَوَّلِ عُقُوقٌ للأَبِ، وَعُقُوقٌ للنُّبُوَّةِ، وَعُقُوقٌ للأَخِ، وَقَعُوا في عُقُوقِ نَبِيَّيْنِ كَرِيمَيْنِ؛ أَمَّا القَمِيصُ الثَّانِي قَمِيصُ الشِّفَاءِ، قَمِيصُ الرَّحْمَةِ، قَمِيصُ اللِّقَاءِ، قَمِيصُ الكَرَامَةِ لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ وَلِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ أَكْرَمَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا بِمَا أَكْرَمَ بِهِ بَعْضَ أَنْبِيائِهِ، كَمَا جَاءَ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

جَاءَ في حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ: عَنْ شُرَحْبِيلَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: بَيْنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ ذِي الْحِمَارِ الْعَنْسِيُّ ـ كَانَ قَد ادَّعَى النُّـبوَّةَ ـ بِالْيَمَنِ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللهِ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَ: فَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟

قَالَ: مَا أَسْمَعُ.

قَالَ: فَأَمَرَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ فَأُجِّجَتْ وَطُرِحَ فِيهَا أَبُو مُسْلِمٍ فَلَمْ تَضُرَّهُ.

فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ: إِنْ تَرَكْتَ هَذَا فِي بَلَدِكَ أَفْسَدَهَا عَلَيْكَ، فَأَمَرَهُ بِالرَّحِيلِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقَامَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي إِلَيْهَا، فَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ الرَّجُلُ؟

قَالَ: مِنَ الْيَمَنِ.

قَالَ: فَمَا فَعَلَ عَدُوُّ اللهِ بِصَاحِبِنَا الَّذِي حَرَّقَهُ بِالنَّارِ فَلَمْ تَضُرَّهُ؟

قَالَ: ذَاكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَوْبٍ.

قَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللهِ أَنْتَ هُوَ؟

قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا رَائِحَةَ الجَنَّةِ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 2/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 19/ تشرين الأول / 2020م