3ـ رحمة الله تعالى شاملة لكل شيء

3ـ رحمة الله تعالى شاملة لكل شيء

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَبْلَ الحَدِيثِ عَنِ الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، نَتَكَلَّمُ عَنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تعالى التي كَتَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ تعالى ذُو الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَالِكُهَا، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

رَحْمَةُ اللهِ تعالى شَامِلَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الرَّحْمَةُ في أُفُقِهَا الأَعْلَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ رَحْمَةٌ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في الوُجُودِ، مِنْ عَاقِلٍ وَغَيْرِ عَاقِلٍ، مِنْ حَيَوَانٍ وَإِنْسٍ وَجَانٍّ وَمَلَكٍ، قَالَ تعالى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾. إِنَّهَا رَحْمَةُ مَنْ يَقْتَدِرُ عَلَى الأَخْذِ بِقُوَّةٍ.

وَهِيَ رَحْمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ مِنَ الكَائِنَاتِ إِمْسَاكًا لَهَا أَو إِرْسَالًا، قَالَ تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَتَتَضَرَّعُ إلى خَالِقِهَا أَنْ يَغْفِرَ للَّذِينَ تَابُوا، قَالَ تعالى عَلَى لِسَانِ المَلَائِكَةِ: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. فَكَمَا وَسِعَهُمْ تَبَارَكَ وتعالى عِلْمًا، كَذَلِكَ وَسِعَهُمْ رَحْمَةً.

وَهِيَ مُضَاعَفَةٌ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، قَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

دُعَاءُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَشْمَلَهُمُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا عَرَفْنَا هَذَا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللهَ تعالى أَنْ يَشْمَلَنَا بِرَحْمَتِهِ، لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمْ أَعْرَفُ النَّاسِ بِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، كَانُوا يَسْأَلُونَ اللهَ تعالى أَنْ يَشْمَلَهُمْ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَقَدْ نَالُوهَا بِفَضْلِ اللهِ تعالى.

هَذَا سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

مَنِ الذينَ كُتِبَتْ لَهُمُ الرَّحْمَةُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ أَنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِخَلْقِهِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ بِنَفْسِ الوَقْتِ فَإِنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ النَّاسَ بِأَوَامِرَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَنَاهٍ، فَمَنْ أَطَاعَهُ اسْتَحَقَّ الرَّحْمَةَ وَالمَغْفِرَةَ في الآخِرَةِ، وَمَنْ عَصَى أَمْرَهُ وَتَكَبَّرَ، وَكَانَ لِآيَاتِ اللهِ عَنِيدًا، وَكَفَرَ بِهِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرَّحْمَةَ في الآخِرَةِ، بَلْ يَسْتَحِقُّونَ العُقُوبَةَ لِكُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾.

إِبْلِيسُ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾. طَمِعَ بِرَحْمَةِ اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ شَيْءٌ، فَتَطَاوَلَ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّ البِسَاطَ سُحِبَ مِنْ تَحْتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّقِ وَلَمْ يُؤْمِنْ.

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الكِتَابِ مِنْ يَهُودٍ وَنَصَارَى اسْتَشْرَفُوهَا لَمَّا سَمِعُوا قَولَهُ تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾. لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ وَيُزَكُّونَ وَيُؤْمِنُونَ، فَتَطَاوَلُوا لَهَا، فَسُحِبَ البِسَاطُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أَيْضًا لِوُجُودِ القَيْدِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الإِيمَانُ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعُهُ ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.

وَللهِ الحَمْدُ نَالَتْهَا أُمَّةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَالذينَ سَيُرْحَمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَتَنَالُهُمْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ، هُمُ الذينَ آمَنُوا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، نِعْمَةِ الإِيمَانِ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تعالى أَخَذَ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، إِنْ بُعِثَ النَّبِيُّ الكَرِيمُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَحَدٌ مِنْهُمْ مَوْجُودٌ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَتَّبِعَهُ وَيَنْصُرَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.

وَقَدْ بَقِيَ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَنَاقَلُونَ هَذَا العَهْدَ حَتَّى جَاءَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُبَشِّرًا بِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 2/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 19/ تشرين الأول / 2020م