770ـ خطبة الجمعة: الأضحية أم الصدقة

770ـ خطبة الجمعة: الأضحية أم الصدقة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: شَعِيرَةُ الأُضْحِيَةِ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، وَمِنْ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هَذِهِ الأُضْحِيَةُ تَرْبِطُنَا بِنَبِيَّيْنِ عَظِيمَيْنِ سَيِّدِنَا خَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَوَلَدِهِ سَيِّدِنَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، روى الحاكم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟

قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».

قَالَ: قُلْنَا: فَمَا لَنَا مِنْهَا؟

قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالصُّوفُ؟

قَالَ: «فَكُلُّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ».

الأُضْحِيَةُ مِنْ أَعْظَمِ القُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: الأُضْحِيَةُ مِنْ أَعْظَمِ القُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إلى اللهِ تعالى يَوْمَ النَّحْرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ، إِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

الأُضْحِيَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ يَتَسَاءَلُونَ اليَوْمَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، الأُضْحِيَةُ أَمِ الصَّدَقَةُ؟ الجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ:

أولًا: الأُضْحِيَةُ وَاجِبَةٌ أَو سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَهِيَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ في أَيَّامِ النَّحْرِ، حَتَّى صَرَّحَ المَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الأُضْحِيَةَ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ الرَّقَبَةِ، وَلَو زَادَ ثَمَنُ الرَّقَبَةِ عَلَى أَضْعَافِ ثَمَنِ الأُضْحِيَةِ، لِأَنَّ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تُؤْخَذُ بِالنَّقْلِ لَا بِالعَقْلِ.

ثانيًا: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى، وَالخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ كَذَلِكَ، وَلَو عَلِمُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ لَتَرَكُوا الأُضْحِيَةَ وَتَصَدَّقُوا، وَلَكِنِ الْتَزَمُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.

ثالثًا: الأُضْحِيَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، لِحَدِيثِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا السَّابِقِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلَاً أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ» أَخْرَجَهُ ابن ماجه.

رابعًا: لِأَنَّ إِيثَارَ الصَّدَقَةِ عَلَى الأُضْحِيَةِ يُفْضِي إلى تَرْكِ سُنَّةٍ سَنَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَحَّ في الحَدِيثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. رواه مسلم. 

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ تَزْهِيدَ النَّاسِ في الأُضْحِيَةِ خُطَّةٌ مَاكِرَةٌ مِنْ قِبَلِ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ لِصَرْفِ النَّاسِ عَنْ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، لَقَدْ شَرَعَهَا لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الفُقَرَاءُ مَوْجُودِينَ في زَمَنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفي زَمَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إلى يَوْمِنَا هَذَا، وَمَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وَلَا خَلَفِهَا قَالَ: الصَّدَقَةُ خَيْرٌ مِنَ الأُضْحِيَةِ وَأَفْضَلُ.

وَأَنَا أَتَسَاءَلُ يَا عِبَادَ اللهِ: لِمَاذَا لَا تَكُونُ المُقَارَنَاتُ إِلَّا بَيْنَ العُمْرَةِ وَالأُضْحِيَةِ وَشَعَائِرِ الإِسْلَامِ وَبِنَاءِ المَسَاجِدِ؛ وَبَيْنَ الفُقَرَاءِ؟!

لِمَاذَا لَا يُقَالُ: لَا تَشْتَرِ لَحْمًا مَرَّتَيْنِ في الأُسْبُوعِ وَاشْتَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِالشَّهْرِ وَطُفْ حَوْلَ الفُقَرَاءِ؟

لِمَاذَا لَا يُقَالُ: لَا تَشْرَبُوا السَّجَائِرَ، وَادْفَعُوا ثَمَنَهَا للفُقَرَاءِ؟

لِمَاذَا لَا يُقَالُ: اتْرُكُوا قَاعَاتِ الأَفْرَاحِ وَالأَثْمَانَ البَاهِظَةَ وَطُوفُوا حَوْلَ الفُقَرَاءِ؟

لِمَاذَا لَا يُقَالُ: اتْرُكُوا المَصَايِفَ والنُزُهَاتِ وَطُوفُوا حَوْلَ الفُقَرَاءِ؟

لِمَاذَا تُنْفَقُ الأَمْوَالُ في التَّرَفِ وَالغِنَاءِ وَالأَفْلَامِ وَالمُسَلْسَلَاتِ وَالمُبَارَيَاتِ وَالنِّتِّ، وَلَا يُطَافُ بِهَذِهِ الأَمْوَالُ حَوْلَ الفُقَرَاءِ؟! لِمَاذَا!! وَلِمَاذَا!!

سُؤَالُنَا نَحْنُ الآنَ: لِمَاذَا لَا تَتْرُكُونَ لَنَا شَعَائِرَنَا نَتَمَتَّعُ بِهَا؟ لِمَاذَا تُقَارِنُونَ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا ذَاتُ فَضْلٍ، وَكَأَنَّهُ يُشَارُ للنَّاسِ أَنْ يَتْرُكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَيَهْتَمُّوا بِعِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ!!

إِنَّ هَذِهِ الأَسْئِلَةَ قَدْ تُدَبَّرُ بِلَيْلٍ مِمَّن يَكِيدُونَ لِهَذَا الدِّينِ، ثُمَّ تُخْرَجُ بِالنَّهَارِ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَيَتَلَقَّفُهَا الذينَ يَنْخَدِعُونَ بِظَاهِرِ العِبَارَةِ وَرَوْنَقِهَا وَلَا يَعْلَمُونَ مَا وَرَاءَهَا مِنْ عَوَامِلِ هَدْمِ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَالخَفِيَّةِ.

ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُرَدِّدُ مِثْلَ هَذِهِ العِبَارَاتِ غَالِبًا لَا يَطُوفُ حَوْلَ الكَعْبَةِ، وَلَا حَوْلَ الفُقَرَاءِ.

وَخُلَاصَةُ الإِجَابَةِ عَنِ السُّؤَالِ أَنَّ الأُضْحِيَةَ أَفْضَلُ، فَحَافِظْ عَلَيْهَا وَلَا تَلْتَفِتْ لِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ التي تُرِيدُ نَفْيَ شَعَائِرِ المُسْلِمِينَ؛ وَمَاذَا لَوْ أَخَذْنَا بِالخَيْرَيْنِ، لِأَنَّهُمَا يُكَمِّلَانِ بَعْضَهُمَا، فَلَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ نَجْعَلَهُمَا مُتَضَادَّيْنِ، وَهُمَا أَصْلًا مُتَلَازِمَانِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَحْيُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَضَحُّوا وَتَقَرَّبُوا إلى اللهِ تعالى، وَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ ذو الحجة /1442هـ، الموافق: 16/تموز / 2021م