775ـ خطبة الجمعة: عاشوراء وكليم الله

775ـ خطبة الجمعة: عاشوراء وكليم الله

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا الشَّهْرُ المُبَارَكُ الذي ارْتَضَاهُ المُسْلِمُونَ بِأَنْ يَكُونَ فَاتِحَةَ العَامِ، تَارِيخَ العَامِ، فَأَرَّخُوا العَامَ ابْتِدَاءً مِنَ المُحَرَّمِ، وَانْتِهَاءً بِذِي الحِجَّةِ، يَعْنِي مَا بَيْنَ الأَوَّلِ مِنَ المُحَرَّمِ إلى آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ.

هَذَا الشَّهْرُ المُبَارَكُ يَقُولُ فِيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَمَا سُئِلَ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا الشَّهْرُ أَفْضَلُهُ اليَوْمُ العَاشِرُ مِنْهُ، وَهَذَا اليَوْمُ اليَوْمُ العَاشِرُ لَهُ تَارِيخٌ سَابقٌ، لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ فَهُوَ مِنْ أَيَّامِ اللهِ تعالى المَشْهُودَةِ.

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: في العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ تَتَذَكَّرُ الأُمَّةُ كَلِيمَ اللهِ تعالى سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي قَصَّ اللهُ تعالى عَلَيْنَا نَبَأَهُ مُنْذُ وِلَادَتِهِ إلى أَنْ بَعَثَهُ اللهُ تعالى دَاعِيًا لِفِرْعَوْنَ، يَدْعُوهُ إلى اللهِ تعالى وَإلى عِبَادَتِهِ، تَتَذَكَّرُ الأُمَّةُ هَذَا الرَّسُولَ العَظِيمَ الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى وَاحِدًا مِنْ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الذي قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾.

رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَصَّ عَلَيْنَا نَبَأَهُ في مُعْظَمِ آيِ الذِّكْرِ، مَا بَيْنَ مَبْسُوطٍ وَمَا بَيْنَ مُوجَزٍ، وَمَا كَانَتْ تِلْكَ القِصَّةُ عَبَثًا، وَلَا مُجَرَّدَ تَارِيخٍ يُحْكَى، وَلَكِنَّهَا العِبَرُ وَالعِظَاتُ ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.

مِنْ هذِهِ العِبَرِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ هَذِهِ العِبَرِ:

أولًا: أَنْ تَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَتَدْبِيرَ اللهِ تعالى خَيْرٌ لَنَا مِنْ تَدْبِيرِنَا، لَقَدْ كَانَ فِرْعَوْنُ يَقْتُلُ أَطْفَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، خَوْفًا عَلَى مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَى يَدِ غُلَامٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَلَكِنْ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، وَمَشِيئَتُهُ فَوْقَ كُلِّ مَشِيئَةٍ، وَتَدْبِيرُهُ فَوْقَ كُلِّ تَدْبِيرٍ ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. فَشَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يَحْفَظَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَوَقَاهُ شَرَّهُمْ، وَرَبَّاهُ في قَصْرِ فِرْعَوْنَ رَغْمًا عَنْ أَنْفِ فِرْعَوْنَ، وَأَوْحَى إلى أُمِّ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. هَلْ تَحَقَّقَ وَعْدُ اللهِ تعالى أَمْ لَا؟ هَلْ رَدَّ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلى أُمِّهِ أَمْ لَا؟

هَلْ جَعَلَهُ مِنَ المُرْسَلِينَ أَمْ لَا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ وَعْدَ اللهِ تعالى لَا يُخْلَفُ، وَالأَمْرُ يَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ وَمُصَابَرَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كَيْدًا وَتَخْطِيطًا لِضَيَاعِ شَبَابِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلِهَتْكِ أَعْرَاضِهَا، وَلِإِتْلَافِ أَمْوَالِهَا، وَلِتَمْزِيقِ شَمْلِهَا، وَلِضَيَاعِ دِينِهَا، فَاصْبِرُوا وَاتَّقُوا اللهَ تعالى، وَأَبْشِرُوا بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.

أَيُّ كَيْدٍ وَأَيُّ مَكْرٍ؟ هُوَ الذي أَشَارَ اللهُ تعالى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾.

ثانيًا: مِنْ هَذِهِ العِبَرِ أَنْ تَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الحَقَّ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ البَاطِلَ أَمَامَ الحَقِّ ضَعِيفٌ، وَلَو طَالَتْ أَيَّامُ البَاطِلِ؛ السَّحَرَةُ أَمَامَ الحَقِّ ذَهَبَ سِحْرُهُمْ وَتَبَعْثَرَ، وَشَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُؤْمِنَ السَّحَرَةُ، وَأَنْ يَقِفُوا في وَجْهِ مَنْ كَانُوا يُنَافِقُونَ لَهُ وَيَكْذِبُونَ مِنْ أَجْلِهِ، وَوَضَعُوا تَهْدِيدَهُ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

ثالثًا: مِنْ هَذِهِ العِبَرِ، أَنْ تَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ اللهَ تعالى مِنْ وَرَاءِ الأَسْبَابِ، فَالأَسْبَابُ لَيْسَتْ آلِهَةً وَلَيْسَتْ حَاكِمَةً عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تعالى، بَلْ هِيَ خَادِمَةٌ لِقَدَرِ اللهِ تعالى.

عِنْدَمَا تَبِعَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَوْمَهُ، وَوَصَلُوا البَحْرَ، وَالعَدُوُّ وَرَاءَهُمْ ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.

وَهَدَاهُ اللهُ تعالى ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: ثِقُوا بِاللهِ تعالى، وَاصْطَلِحُوا مَعَ اللهِ تعالى، إِذَا كُنْتُمْ تَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَشَبَابِكُمْ، وَأَعْرَاضِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَرْضِكُمْ، ثِقُوا بِاللهِ تعالى بِأَنَّ مَنْ كَادَ لَكُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ تعالى كَيْدَهُ في نَحْرِهِ إِذَا اتَّقَيْتُمُ اللهَ تعالى، وَاصْطَلَحْتُمْ مَعَهُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 5/ محرم /1443هـ، الموافق: 13/آب / 2021م