18ـ غزوة بدر مميزة

18ـ غزوة بدر مميزة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تُعْتَبَرُ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ بَيَانًا وَمِنْهَاجًا لِسِيرَةِ الدَّعْوَةِ، وَأُسْلُوبِ الدَّاعِي، وَسِجِلًّا لِأَحْدَاثِ الكِيَانِ الإِسْلَامِيِّ مِنْ أَوَّلِ بَدْءِ الوَحْيِ إلى خَاتِمَتِهِ، وَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالدَّرْسِ وَالتَّحْلِيلِ للتَّأَسِّي وَالاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

غَزْوَةُ بَدْرٍ مُمَيَّزَةٌ عَنْ جَمِيعِ الغَزَوَاتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ مُمَيَّزَةٌ عَنْ جَمِيعِ الغَزَوَاتِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ بِتَوْجِيهٍ مٌبَاشِرٍ بِوَحْيٍ يُتْلَى، وَفْقَ خُطَّةٍ سَابِقَةٍ، وَكَانَ دَوْرُ المُسْلِمِينَ فِيهَا التَّطْبِيقَ العَمَلِيَّ؛ بِحَقٍّ كَانَتْ بِتَدْبِيرِ اللهِ تعالى بِدَايَةً وَنِهَايَةً.

وَهَذِهِ الخُطَّةُ مُنَوَّهٌ عَنْهَا قَبْلَ الهِجْرَةِ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ قُلْتُ: أَيُّ جَمْعٍ هَذَا؟

فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ مُصْلِتًا، وَهُوَ يَقُولُ: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾.

وَفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ».

فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾.

وَلَكِنَّ أَحْدَاثَ مَكَّةَ وَطَرِيقَ الهِجْرَةِ غَطَّتَا عَلَى هَذَا التَّنْوِيهِ، ثُمَّ جَاءَ الوَعْدُ الصَّرِيحُ في العَهْدِ القَرِيبِ: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾. تَحْقِيقًا للخُطَّةِ السَابِقَةِ: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾.

سَبَبُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَرَامَتِ الأَنْبَاءُ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، أَنَّ قَافِلَةً ضَخْمَةً لِقُرَيْشٍ تَهْبِطُ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ عَائِدَةً إلى مَكَّةَ، تَحْمِلُ لِأَهْلِهَا الثَّرْوَةَ الطَّائِلَةَ، أَلْفُ بَعِيرٍ مُوَقَّرَةً بِالأَمْوَالِ يَقُودُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ مَعَ رِجَالٍ لَا يَزِيدُونَ عَلَى الثَّلَاثِينَ أَو الأَرْبَعِينَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قُرَيْشٌ إِذَا فَقَدَتْ هَذِهِ الثَّرْوَةَ الضَّخْمَةَ سَوْفَ تَكُونُ قَاصِمَةً لِظَهْرِهَا، وَفِيهَا عِوَضٌ كَامِلٌ لِمَا لَحِقَ المُسْلِمِينَ مِنْ خَسَائِرَ في أَثْنَاءِ هِجْرَتِهِمُ الأَخِيرَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتِ العِيرُ مُرَكَّبَةً مِنْ ثَرَوَاتٍ طَائِلَةٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَلْفُ بَعِيرٍ مُوَقَّرَةً بِأَمْوَالٍ لَا تَقِلُّ عَنْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ذَهَبِيٍّ؛ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنَ الحَرْبِ إِلَّا نَحْوُ أَرْبَعِينَ رَجُلًا.

إِنَّهَا فُرْصَةٌ ذَهَبِيَّةٌ للمُسْلِمِينَ لِيُصِيبُوا أَهْلَ مَكَّةَ بِضَرْبَةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ قَاصِمَةٍ، تَتَأَلَّمُ لَهَا قُلُوبُهُم على مَرِّ العُصُورِ، لذلكَ أَعْلَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِلًا: «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُم، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ يُنَفِّلُكُمُوهَا».

وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى أَحَدٍ بِالخُرُوجِ، بَلْ تَرَكَ الأَمْرَ للرَّغْبَةِ المُطْلَقَةِ، لِمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ عِنْدَ هَذَا الانْتِدَابِ أَنَّهُ سَيَصْطَدِمُ بِجَيْشِ مَكَّةَ ـ بَدَلَ العِيرِ ـ هَذَا الاصْطِدَامَ العَنِيفَ في بَدْرٍ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ في المَدِينَةِ، وَهُم يَحْسَبُونَ أَنَّ مُضِيَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هَذَا الوَجْهِ لَنْ يَعْدُوَ مَا أَلِفُوهُ في السَّرَايَا وَالغَزَوَاتِ المَاضِيَةِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَحَدٍ تَخَلُّفَهُ في هَذِهِ الغَزْوَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الخُرُوجُ مِنْ أَجْلِ العِيرِ أَمْرٌ عَادِيٌّ فِيمَا بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ، فَالمُسْلِمُونَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا بِدِينِهِمْ، وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ في مَكَّةَ.

هَذَا سَيِّدُنَا صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عِنْدَ الهِجْرَةِ، كَمَا يَرْوِي الإِمَامُ الحَاكِمُ عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبِخَةً بَيْنَ ظَهْرَانَيْ حَرَّةَ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَجَرًا أَوْ تَكُونَ يَثْرِبَ».

قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكُنْتُ قَدْ هَمَمْتُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ فَصَدَّنِي فَتَيَانٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ وَلَا أَقْعُدُ، فَقَالُوا: قَدْ شَغَلَهُ اللهُ عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا، فَقَامُوا فَلَحِقَنِي مِنْهُمْ نَاسٌ بَعْدَمَا سِرْتُ بَرِيدًا لِيَرُدُّونِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أُعْطِيَكُمْ أَوَاقِيَّ مِنْ ذَهَبٍ وَتُخَلُّونَ سَبِيلِي، وَتَفُونَ لِي؟ فَتَبِعْتُهُمْ إِلَى مَكَّةَ.

فَقُلْتُ لَهُمُ: احْفِرُوا تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ فَإِنَّ تَحْتَهَا الْأَوَاقَّ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانَةَ فَخُذُوا الْحُلَّتَيْنِ.

وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا ـ يَعْنِي قُبَاءَ ـ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «يَا أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ» ثَلَاثًا.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَهَذَا سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، نَادَى ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: أَيْنَ مَالِي يَا خَبِيثُ؟

فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:

لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شِكَّةٍ وَيَعْبُوبْ   ***   وَصَارِمٌ يَقْتُلُ ضُلَّالَ الشِّيْبْ

يَعْنِي: لَمْ يَبْقَ إِلَّا عِدَّةُ الحَرْبِ، وَحِصَانٌ ـ وَهُوَ اليَعْبُوبُ ـ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ شُيُوخُ الضَّلَالَةِ، هَذَا يَقُولُهُ في حَالِ كُفْرِهِ.

وَقَدْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِالإِسْلَامِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَصَحِبَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اشْتَهَرَ بِالشَّجَاعَةِ، وَلَهُ مَوَاقِفُ مَحْمُودَةٌ وَمَشْهُودَةٌ بَعْدَ إِسْلَامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَهُوَ أَسَنُّ أَوْلَادِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا.

فَخُرُوجُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ لِأَخْذِ العِيرِ أَمْرٌ عَادِيٌّ وَطَبِيعِيٌّ في مِثْلِ هَذِهِ الحَالَةِ، لِأَنَّ الطَّرَفَيْنِ في حَالَةِ حَرْبٍ، مُنْذُ أَنْ تَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ لَيْلًا إلى الغَارِ، وَهَاجَرَ إلى المَدِينَةِ.

وَحَالَةُ الحَرْبِ تُجِيزُ أَخْذَ مَالِ العَدُوِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ غَدْرًا، وَلَا اعْتِدَاءً، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ إِلَّا بَعْدَ رَدِّ الوَدَائِعِ إلى أَهْلِهَا، وَخَلَّفَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ لِأَدَائهَا، وَتَرَكَهُ في فِرَاشِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، لِأَنَّهَا أَمَانَاتٌ وَوَدَائِعُ؛ كَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ القَائِلُ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 18/ رمضان /1443هـ، الموافق: 19/نيسان / 2022م