850ـ خطبة الجمعة: أثر الإيمان في حياة الإنسان

850ـ خطبة الجمعة: أثر الإيمان في حياة الإنسان

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى لَهُ طَعْمٌ وَحَلَاوَةٌ، وَلَهُ مَذَاقٌ خَاصٌّ جَمِيلٌ، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

نَعَمْ، إِنَّ للإِيمَانِ مَذَاقًا خَاصًّا، وَأَثَرًا عَظِيمًا في شَخْصِيَّةِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، قَالَ تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. بِالإِيمَانِ صَارَ حَيًّا.

هَنِيئًا لِمَنِ انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى عِنْدَمَا يَصِفُ الأَبْرَارَ وَهُمْ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾. فَعِنْدَمَا آمَنُوا أَحْيَاهُمُ اللهُ تعالى حَيَاةً طَيِّبَةً، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.

هَذَا الإِيمَانُ بِأُصُولِهِ الثَّلَاثَةِ: الرِّضَا بِاللهِ تعالى رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، هِيَ أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهَا العَبْدُ في قَبْرِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه أبو دَاوُدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا.

وَقَالَ: «وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟».

قَالَ هَنَّادٌ: قَالَ: «وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟».

قَالَ: «فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ».

أَثَرُ الإِيمَانِ في حَيَاةِ الإِنْسَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: بِهَذَا الإِيمَانِ يَعِيشُ الإِنْسَانُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَبِطَعْمِ حَلَاوَةِ الإِيمَانِ يَتَغَلَّبُ عَلَى مَرَارَةِ المَصَائِبِ وَالغَلَاءِ وَالبَلَاءِ وَالعَذَابِ، كَمَا تَغَلَّبَ سَيِّدُنَا بِلَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِحَلَاوَةِ إِيمَانِهِ عَلَى مَرَارَةِ العَذَابِ التي ذَاقَهَا، حَيْثُ كَانَ يُوضَعُ عَلَى الرِّمَالِ الحَارَّةِ وَعَلَى الرَّمْضَاءِ، وَتُوضَعُ عَلَيْهِ الأَحْجَارُ المُحْمَاةُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.

بِطَعْمِ حَلَاوَةِ الإِيمَانِ تَغَلَّبَ سَيِّدُنَا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى أَلَمِ الصَّلْبِ، جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ عَاصِمٌ: ثُمَّ خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ، حَتَّى إذَا جَاؤُوا بِهِ إلَى التَّنْعِيمِ لِيَصْلُبُوهُ.

قَالَ لَهُمْ: إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَدَعُونِي حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَافْعَلُوا.

قَالُوا: دُونَكَ فَارْكَعْ.

فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهُمَا وَأَحْسَنَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إنَّمَا طَوَّلْتُ جَزَعًا مِنْ الْقَتْلِ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الصَّلَاةِ.

قَالَ: فَكَانَ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ لِلْمُسْلِمِينَ.

قَالَ: ثُمَّ رَفَعُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلَمَّا أَوْثَقُوهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا قَدْ بَلَّغْنَا رِسَالَةَ رَسُولِكَ، فَبَلِّغْهُ الْغَدَاةَ مَا يُصْنَعُ بِنَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا؛ ثُمَّ قَتَلُوهُ رَحِمَهُ اللهُ.

بِطَعْمِ حَلَاوَةِ الإِيمَانِ تَغَلَّبَتْ تِلْكَ المَرْأَةُ الأَنْصَارِيَّةُ عَلَى أَلَمِ فَقْدِ الأَبِ وَالأَخِ وَالزَّوْجِ، كَمَا جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟.

قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ، هُوَ بِحَمْدِ اللهِ كَمَا تُحِبِّينَ.

قَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إلَيْهِ؟

قَالَ: فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ، حَتَّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ (تُرِيدُ صَغِيرَةً).

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: حَقًّا: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ تعالى رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا.

وَحَقًّا ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ تَحَقَّقَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَحَقًّا ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَحَلَاوَتَهُ مَنْ تَغَلَبَّ عَلَى مَصَائِبِ الدُّنْيَا، وَعَاشَ عِيشَةَ السُّعَدَاءِ رَغْمَ مَرَارَةِ المَصَائِبِ، وَلَنْ تَجِدَ أَسْعَدَ مِنْهُ.

وَحَقًّا ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَحَلَاوَتَهُ مَنْ كَانَ قَبْرُهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ في قَبْرِهِ إِيمَانُهُ ودِينُهُ، وَسَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ».

قَالَ: «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟».

قَالَ: «فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ».

قَالَ: «فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ».

قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا».

يَا رَبِّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ الإِيمَانِ، يَا رَبِّ أَذِقْنَا طَعْمَ الإِيمَانِ وَحَلَاوَتَهُ، يَا رَبِّ أَسْعِدْنَا في عَالَمِ الدُّنْيَا، وَفي عَالَمِ البَرْزَخِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ، مَعَ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَأَحْبَابِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 13/ كانون الثاني / 2023م