24ـ رحمته صلى الله عليه وسلم بعالم الجن

24ـ رحمته صلى الله عليه وسلم بعالم الجن

مقدمة الكلمة:

رَحْمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَالَمِ الجِنِّ:

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟

قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ، أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟

قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ.

فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ.

قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلَ حِرَاءٍ.

قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَعَدَّتْ رَحْمَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَالَمَ الإِنْسِ وَالحَيَوَانِ، لِتَشْمَلَ رَحْمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَالَمَ الجِنِّ.

فَقَالَ: «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ».

قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ.

فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى عُمُومِ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى عَالَمِ الجِنِّ، وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ وَالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ.

أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى عَالَمِ الجِنِّ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾.

وَإِنَّ الجِنَّ قَدْ بَلَغَهُمُ القُرْآنُ بِنَصِّ القُرْآنِ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾. وَالجِنُّ مِنْ عَالَمِ التَّكْلِيفِ.

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ». فَيَدْخُلُ في عُمُومِ الخَلْقِ عَالَمُ الجِنِّ.

قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَثَبَتَ التَّصْرِيح بِذَلِكَ فِي حَدِيث: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُبْعَث إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار. اهـ.

وَقَدْ نُقِلَ في الفَتْحِ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ، أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلى الإِنْسِ وَالجِنِّ.

وَقَدْ ثَبَتَ بُلُوغُ دَعْوَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الجِنِّ قَطْعًا، وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ تَوَافُدِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِمَاعِهِمْ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ طَرِيقِ ذَهَابِهِ إِلَيْهِمْ وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ وَسُؤَالَاتِهِمْ لَهُ وَجَوَابَاتِهِ لَهُمْ.

قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾.

وَالمَعْنَى: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ الذي جَاءَ يَدْعُوكُمْ إلى اللهِ، وَقَدْ دَعَاكُمْ فَيَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُجِيبُوهُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِدَعْوَتِهِمْ لَمَا وَجَبَتْ إِجَابَتُهُ عَلَيْهِمْ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَصْنَافُ الجِنِّ وافْتِرَاقُهُمْ عَلَى طَرَائِقَ:

قَالَ اللهُ تعالى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾.

فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الجِنَّ عَلَى طَرَائِقَ قِدَدٍ ـ أَيْ: طَرَائِقَ مُتَقَطِّعَةٍ، وَمَشَارِبَ مُتَفَرِّقَةٍ، وَآرَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ ـ فَمِنْهُمُ الصَّالِحُ وَمِنهُمُ الطَّالِحُ، وَمِنْهُمُ المُسْلِمُ وَمِنْهُمُ الكَافِرُ، وَمِنْهُمُ المُتَّبِعُ وَمِنْهُمُ المُبْتَدِعُ، وَمِنْهُمُ اليَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالمَجُوسِيُّ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ في الإِنْسِ.

فَالمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: الجِنُّ المُسْلِمُونَ، وَصُلَحَاؤُهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: صُلَحَاءُ الجِنِّ، وَالكُفَّارُ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ شَيَاطِينَ الجِنِّ، وَأَوَّلُ شَيْطَانٍ جِنِّيٍّ هُوَ إِبْلِيسُ، كَمَا قَالَ فِيهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾.

وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ العُلَمَاءِ وَالعَارِفِينَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنَ الجِنِّ، وَلَيْسَ مَلَكًا بِوُجُوهٍ مِنَ الأَدِلَّةِ:

أَوَّلًا: إِنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ، قَالَ تعالى إِخْبَارًا عَنْهُ: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾. وَالمَلَائِكَةُ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ.

ثَانِيًا: إِنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ، قَالَ تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾. وَأَمَّا المَلَائِكَةُ فَلَا ذُرِّيَّةَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلَا إِنَاثًا، وَلَا شَهْوَةَ لَهُمْ.

ثَالِثًا: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ بِنَصِّ القُرْآنِ، وَالجِنُّ لَيْسُوا مَلَائِكَةً، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾. فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ الجِنَّ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ المَلَائِكَةِ.

وَقَالَ تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾.

رَابِعًا: إِنَّ المَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ عَنِ المُخَالَفَةِ وَالمَعْصِيَةِ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَهُمْ بِأَمْرِ اللهِ تعالى يَعْمَلُونَ، وَإِنَّ إِبْلِيسَ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ تعالى بِالسُّجُودِ لِسَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يَعْمَلْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تعالى بِهِ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنَ العُلَمَاءِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ المَلَائِكَةِ، فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَو لَمْ يَكُنْ مَلَكًا لَمَا تَنَاوَلَهُ الأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِسَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ الأَمْرَ بِالسُّجُودِ لِسَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُوَجَّهًا لِلْمَلَائِكَةِ بِنَصِّ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾. فَلَو لَمْ يَكُنْ مَلَكًا لَمَا كَانَ تَخَلُّفُهُ عَنِ السُّجُودِ يُوجِبُ طَرْدًا وَإِبْعَادًا حِينَئِذٍ.

وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ العُلَمَاءُ القَائِلُونَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الجِنِّ، أَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾. بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جِنْسِ المَأْمُورِينَ، لَا مِنْ جِنْسِ المَلَائِكَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ وَلِإِبْلِيسَ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ؛ تَقُولُ: أَمَرْتُ إِخْوَتِي وَعَبْدِي بِكَذَا، فَأَطَاعُونِي إِلَّا عَبْدِي، فَالعَبْدُ لَيْسَ مِنَ الإِخْوَةِ، وَلَا دَاخِلًا فِيهِمْ إِلَّا مِنْ حَيْثُ شَمَلَهُ الأَمْرُ بِالفِعْلِ مَعَهُمْ.

هَذَا وَإِنَّ قَوْلَهُ تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾. يُشِيرُ إلى أَنَّ هُنَاكَ أَمْرًا مُوَجَّهًا عَلَيْهِ بِالسُّجُودِ.

وَأَجَابُوا أَيْضًا: بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ مِنَ المَلَائِكَةِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ.

مَوْقِفُ الشَّيْطَانِ مِنَ الإِنْسَانِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾.

فَالشَّيْطَانُ عَدُوٌّ للإِنْسَانِ مُبِينٌ، فَيَنْبَغِي عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَقِفَ مَعَهُ مَوْقِفَ المُعَادِي الحَذِرِ مِنْ شَرِّهِ وَمَكْرِهِ؛ وَمِنْ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ للإِنْسَانِ أَنَّهُ يَبْذُلُ جَمِيعَ جُهُودِهِ وَطَاقَاتِهِ في تَضْلِيلِ الإِنْسَانِ وَتَزْيِينِ الكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَالفَسَادِ لَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾. أَيْ: كَفَّرَهُمْ وَفَسَّقَهُمْ.

وَمِنْ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ يَعِدُ الإِنْسَانَ بِالفَقْرِ، وَاليَأْسِ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ وَيَرْجُوهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالفَحْشَاءِ، قَالَ تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾.

كَمَا وَأَنَّهُ يَسْعَى في إِزْعَاجِ الإِنْسَانِ وَتَحْزِينِهِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

كَمَا وَأَنَّهُ يَسْعَى في إِلْقَاءِ العَدَاوَةِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ، وَإِثَارَةِ البَغْضَاءِ فِيهِمْ بِشَتَّى الأَسْبَابِ القَوْلِيَّةِ وَالعَمَلِيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ﴾. أَيْ: ُوقِعُ الشُّرُورَ وَيُفْسِدُ ذَاتَ البَيْنِ.

كَمَا وَأَنَّ مِنْ شَأْنِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَقْذِفَ في القَلْبِ الأَبَاطِيلَ وَالظُّنُونَ السَّيِّئَةَ، وَيُوَسْوِسَ وَيُفْسِدَ.

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ (أَيْ: لِأَرْجِعَ) فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ».

فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ!

قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا، أَوْ قَالَ: شَيْئًا».

وَقَدْ نَبَّهَ اللهُ تعالى عِبَادَهُ إلى أَنَّ خَطَرَ الوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ كَبِيرٌ، وَشَرَّهَا مُسْتَطِيرٌ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي للعَبْدِ أَنْ يَلْجَأَ إلى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَائِذًا بِهِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، قَالَ تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.

وَمِنْ وَسْوَسَتِهِ مَا ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ».

أَيْ: فَلْيَتْرُكِ التَّفْكِيرَ في هَذَا الخَاطِرِ البَاطِلِ، وَلْيُفَكِّرْ بِالأَمْرِ الحَقِّ، لِئَلَّا يَسْتَحْوْذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِتِلْكَ الوَسْوَسَةِ الفَاسِدَةِ، وَالتَّخَيُّلَاتِ الكَاسِدَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ القَلَقِ وَالتَّشْوِيشِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ.

فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؛ ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ».

يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ وَسْوَسَةً بَاطِلَةً، لَا مَوْقِعَ لَهَا مِنَ الاعْتِبَارِ وَالقَبُولِ في مَوَازِينِ العُقُولِ، فَإِنَّ اللهَ أَحَدٌ وَاحِدٌ، وَلَا أَحَدَ قَبْلَهُ، إِذْ إِنَّ الوَاحِدَ العَدَدِيَّ النِّسْبِيَّ لَا وَاحِدَ قَبْلَهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالوَاحِدِ الأَحَدِ المُطْلَقِ الذي لَهُ الوَحْدَةُ الذَّاتِيَّةُ المُطْلَقَةُ سُبْحَانَهُ وَتعالى؟!

وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يُكَفِّرَ الإِنْسَانَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ المُكَفِّرَاتِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حَاوَلَ أَنْ يُوقِعَهُ في البِدَعِ الضَّالَّةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حَاوَلَ أَنْ يُوقِعَهُ في صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حَاوَلَ أَنْ يَشْغَلَهُ بِالمُبَاحَاتِ التي لَا ثَوَابَ فِيهَا وَلَا عِقَابَ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ قَدْ شَغَلَهُ عَمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حَاوَلَ أَنْ يَشْغَلَهُ بِالعَمَلِ المَفْضُولِ عَنِ العَمَلِ الأَفْضَلِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَاوَلَ أَنْ يُوقِعَهُ يُشَوِّشَ عَلَى المُؤْمِنِ فِكْرَهُ، وَيُعَكِّرَ عَلَيْهِ صَفَاءَهُ، وَلِذَلكَ يَنْبَغِي للعَبْدِ أَنْ يَعُوذَ بِرَبِّهِ، وَيَتَحَصَّنَ بِهِ مِنْ شُرُورِ الشَّيَاطِينِ.

وَإِنَّ للتَّحَصُّنِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ وَمَضَارِّهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ أَسْبَابًا وَاقِيَةً، أَرْشَدَ الشَّارِعُ الحَكِيمُ إِلَيْهَا وَإلى إِيقَاعِهَا في مَوَاقِعِهَا:

أَحَدُهَا: التَّعَوُّذُ بِاللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. أَيْ: السَّمِيعُ المُجِيبُ لِاسْتِعَاذَتِكَ، العَلِيمُ بِحَالِكَ وَبِمَا يَحْفَظُكَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ.

ثَانِيهَا: التَّسْمِيَةُ، فَإِنَّهَا وِقَايَةٌ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ التَّعْوِيذَاتِ الإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ المُعَوِّذَاتِ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ، حَتَّى نَزَلَتِ المُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا.

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

وَرَوَى الحَاكِمُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَؤُوا الْمُعَوِّذَاتِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ». أَيْ: لِمَا فِيهَا مِنَ الحِفْظِ وَالوِقَايَةِ.

وَفي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ الْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ.

ثَالِثُهَا: قِرَاءَةُ آيَةِ الكُرْسِيِّ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ.

فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ الحَدِيثَ ـ.

فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ».

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ خَاتِمَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، فِيهَا وِقَايَةٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ».

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» أَيْ: كَفَتَاهُ شَرَّ الشَّيَاطِينِ وَالآفَاتِ، وَمِنَ المَسَاوِئِ وَالمَكَارِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَسْبُهُ بِهِمَا فَضْلًا وَأَجْرًا، أَو إِنَّهُمَا أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ القِرَاءَةِ في قِيَامِ اللَّيْلِ.

هَذَا وَإِنَّ قِرَاءَةَ سُورَةِ البَقَرَةِ في البَيْتِ تُنَزِّلُ عَلَيْهِ الخَيْرَ وَالبَرَكَةَ، وَتُبْعِدُ عَنْهُ الشَّيَاطِينَ، وَتَحْفَظُ أَهْلَ البَيْتِ مِنَ السَّحَرَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ». قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ.

يَعْنِي: إِنَّ المُوَاظَبَةَ عَلَى تِلَاوَتِهَا وَالعَمَلِ بِهَا نَمَاءٌ وَبَرَكَةٌ في العَمَلِ وَالعُمُرِ وَالرِّزْقِ، وَتَرْكَ تِلَاوَتِهَا حَسْرَةٌ وَفَوَاتُ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ، أَيْ: السَّحَرَةُ، لِأَنَّ لَهَا سُلْطَانًا وَقُوَّةً.

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ تِلَاوَةَ القُرْآنِ تَتَنَزَّلُ لَهَا المَلَائِكَةُ، وَمَتَى نَزَلَتِ المَلَائِكَةُ انْهَزَمَتِ الشَّيَاطِينُ، سِيَّمَا إِذَا قُرِئَ القُرْآنُ جَهْرًا في اللَّيْلِ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ.

قَالَ: وَمَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ.

قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ».

قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: وَقَالَ لِعُمَرَ: «مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ».

قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ.

ـ زَادَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: ـ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا».

وَقَالَ لِعُمَرَ: «اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا».

رَابِعُهَا: مِنْ جُمْلَةِ مَا وَرَدَ لِأَجْلِ التَّحَفُّظِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ شُرُورِ الشَّيَاطِينِ، مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ ـ وَفي رِوَايَةٍ للتِّرْمِذِيِّ: يُحْيِي وَيُمِيتُ ـ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».

خَامِسُهَا: الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى، فَإِنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى حِصْنٌ حَصِينٌ للذَّاكِرِ، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا».

فَذَكَرَ الحَدِيثَ وَقَالَ في الخَامِسَةِ: «وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ».

وَرَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ (أَيْ: فَمَهُ) عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ؛ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ».

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ﴾. الشَّيْطَانُ جَائِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ. اهـ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ للذَّاكِرِ مَعِيَّةً إِلَهِيَّةً خَاصَّةً، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ».

وَلِأَنَّ ذَاكِرَ اللهِ تعالى تَحُفُّ بِهِ المَلَائِكَةُ، فَكَيْفَ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ؟! اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا.

وَمِنْ أَجْمَعِ التَّعَاوِيذِ وَأَقْوَاهَا تَأْثِيرًا، مَا جَاءَ في مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَنْبَشٍ: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟

قَالَ: جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: فَرُعِبَ ـ قَالَ جَعْفَرٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: جَعَلَ يَتَأَخَّرُ ـ قَالَ: وَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ.

قَالَ: «مَا أَقُولُ؟».

قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ».

فَطَفِئَتْ نَارُالشَّيَاطِينِ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُوجَزَةٌ مِنَ الأَسْبَابِ الوَاقِيَةِ مِنْ شُرُورِ الشَّيَاطِينِ وَوَسْوَسَتِهِمْ.

وَرَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ وَالإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ صَيْفِيٍّ ـ وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ ـ أَخْبَرَنِي أَبُو السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟

فَقُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ.

قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ.

فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا: ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا.

فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ».

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».

وَفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءِ بْنِ عُبَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ السَّائِبُ وَهُوَ عِنْدَنَا أَبُو السَّائِبِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ سَمِعْنَا تَحْتَ سَرِيرِهِ حَرَكَةً، فَنَظَرْنَا فَإِذَا حَيَّةٌ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ صَيْفِيٍّ، وَقَالَ فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ، وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ».

وَقَالَ لَهُمْ: «اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ».

وَلَمَّا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً، وَرَؤُوفًا رَحِيمًا، وَكَانَتْ رِسَالَتُهُ كُلُّهَا رَحْمَةً، وَبُعِثَ بِالرَّحْمَةِ، فَقَدْ شَمَلَتِ الإِنْسَ وَالجِنَّ، مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، صَالِحَهُمْ وَفَاسِقَهُمْ، رِجَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، كِبَارَهُمْ وَصِغَارَهُمْ، صَدِيقَهُمْ وَعَدُوَّهُمْ، أَحْرَارَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، عُلَمَاءَهُمْ وَجُهَّالَهُمْ، مُطِيعَهُمْ وَعَاصِيَهُمْ، مُوِدَّهُمْ وَمُبْغِضَهُمْ، حَاضِرَتَهُمْ وَبَادِيَتَهُمْ، حَاضِرَهُمْ وَغَائِبَهُمْ، مَنْ وُلِدَ وَمَنْ لَمْ يُولَدْ، بَلْ تَعَدَّتِ الإِنْسَانَ فَشَمَلَتِ الحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ.

لِذَا لَوْ عَلِمَ الكَافِرُ حَقِيقَةَ شُمُولِ الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُ لَعَجَزَ عَنْ شُكْرِهِ، وَبَادَرَ بِالإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَو لَمْ تَشْمَلْهُ لَهَلَكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ هُوَ عَلَى شَاكِلَتِهِ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 16/ذو القعدة /1444هـ، الموافق: 5/حزيران / 2023م