820ـ خطبة الجمعة: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم

820ـ خطبة الجمعة: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ كَرِيمٌ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ، لِيَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُوا عَنْ زَلَّاتِهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مَفْضُوحِيَنَ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَنْ نَتَحَلَّى بِصِفَةِ السَّتْرِ عَلَى عِبَادِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ نَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ فَضِيحَتِهِمْ، لِأَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.

فَيَا مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ فَضِيحَةَ النَّاسِ، تَذَكَّرْ أَنَكَ أَنْتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّكَ مَشْمُولٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رَوَاهُ الحَاكِمُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ دَعَانَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى سَتْرِ العِبَادِ، وَخَاصَّةً مِمَّنْ عُرِفَ عَنْهُمُ الاسْتِقَامَةُ، فَأَصْحَابُ الاسْتِقَامَةِ قَدْ يَقَعُ أَحَدُهُمْ في زَلَّةٍ، فَلْنَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ فَضِيحَتِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

أَيْ: اسْتُرُوهُمْ وَلَا تَفْضَحُوهُمْ، لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِمْ في الزَّلَّاتِ العَابِرَةِ النَّادِرَةِ لَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ تَعُودُ عَلَيْهِمْ في أَنْفُسِهِمْ، وَتَعُودُ عَلَى المُجْتَمَعِ كُلِّهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ التَّشْهِيرَ بِالنَّاسِ، وَنَشْرَ عَوْرَاتِهِمْ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالفُسَّاقِ المُتَشَبِّهِينَ بِاليَهُودِ المُغْرَمِينَ بِإِشَاعَةِ الفَاحِشَةِ؛ وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ فَلْيُبَادِرْ إلى التَّوبَةِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِئَلَّا يَقَعَ تَحْتَ الإِنْذَارِ الإِلَهِيِّ الذي يَقُولُ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

وَقَالَ تعالى نَاهِيًا عَنْ هَذِهِ الكَبِيرَةِ: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾.

وَقَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمَا حَذَّرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنَ التَّشهِيرِ بِالنَّاسِ، فَإِنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَذَّرَنَا مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا في أَحَادِيثَ عِدَّةٍ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا».

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ ـ الرّصَاصُ الُمذَابُ ـ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ، وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ».

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ أَعْرَاضَ النَّاسِ مُصَانَةٌ، وَعَوْرَاتِهُمْ مَسْتُورَةٌ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَتَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ اللهُ في عُقْرِ دَارِهِ، وَمَنْ تَجَسَّسَ عَلَى المُسْلِمِينَ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ الذينَ لَمْ يُبَاشِرِ الإِيمَانُ قُلُوبَهُمْ.

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ».

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ، أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِمَاذَا يَرْضَى بَعْضُ المُسْلِمِينَ لِنَفْسِهِ بِتَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَاغْتِيَابِهِمْ وَهَمْزِهِمْ وَلَمْزِهِمْ وَتَعْيِيرِهِمْ؟ فَهَلَّا تَرَفَّعَ بِنَفْسِهِ عَنْ هَذِهِ الدَّرَكَةِ الخَسِيسَةِ، وَرَبَّى نَفْسَهُ عَلَى مَعَالِي الأُمُورِ، وَتَجَنَّبَ سَفاسِفَهَا.

أَمَا يَشْتَاقُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ النَّاسِ إلى سَتْرِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟

أَمَا يَذْكُرُ هَذَا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ السَّتْرَ عَلَى المُسْتَتِرِ بِمَعْصِيَةٍ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَفِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَيَحْرُمُ تَتَبُّعُ عَوْرَاتِهِ وَاسْتِكْشَافُ أَمْرِهِ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ دُخَيْنٍ كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ.

فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ.

قَالَ: فَفَعَلَ فَلَمْ يَنْتَهُوا.

قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ، فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ.

فَقَالَ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْؤودَةً مِنْ قَبْرِهَا».

اللَّهُمَّ اسْتُرْنَا فِيمَا بَقِيَ مَنْ أَعْمَارِنَا كَمَا سَتَرْتَنَا أَوَّلَهُ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 17/ذو القعدة /1443هـ، الموافق: 17/ حزيران / 2022م