30ـ اليسر في دين الله عز وجل

30ـ اليسر في دين الله عز وجل

مقدمة الكلمة:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بُعِثَ مُيَسِّرًا، وَلَمْ يُبْعَثْ مَعَسِّرًا، وَالتَّيْسِيرُ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ، وَإِلَّا لَمْ يُيَسَّرْ.

قَالَ اللهُ تعالى في أَصْلِ هَذَا الدِّينِ، وَنِعْمَةِ اللهِ عَلَى البَشَرِيَّةِ بِبِعْثَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾.

وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ تعالى يُسْرَ هَذَا الدِّينِ الذي جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.

اليُسْرُ في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ سِمَاتِ شَرِيعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اليُسْرُ، وَرَفْعُ الأَغْلَالِ، وَوَضْعُ الإِصْرِ وَالأَحْمَالِ، وَقَدْ قَرَّرَ هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

(مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا) أَيْ: مُشَدِّدًا عَلَى النَّاسِ وَمُلْزِمًا لَهُمْ مَا يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ؛ وَلَا مُتَعَنِّتًا: أَيْ: طَالِبًا زَلَّتَهُمْ، وَأَصْلُ العَنَتَ المَشَقَّةُ.

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: «الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ».

وَاليُسْرُ المَقْصُودُ هُنَا هُوَ مَا نُقِلَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْتِزَامٍ وَتَطْبِيقٍ مِنْ خِلَالِ أَحَادِيثِهِ الشَّرِيفَةِ، وَسِيرَتِهِ العَطِرَةِ؛ وَلَيْسَ اليُسْرُ التَّرَخُّصَ وَالتَّفْرِيطَ النَّاشِئَ عَنْ عَجْزِ النَّاسِ وَخَوَرِ هِمَمِهِمْ، وَضَعْفِ غَرَائِزِهِمْ، وَقِلَّةِ تَعَلُّقِهِمْ بِأَوَامِرِ اللهِ تعالى، وَأَوَامِرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَجْزٌ وَلَيْسَ يُسْرًا.

وَمِقْيَاسُ اليُسْرِ مَا جَاءَ تَحْدِيدُهُ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَسِيرَتِهِ العَطِرَةِ؛ وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ».

وَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ».

وَمِثَالُ ذَلِكَ وَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عِنْدَمَا أَرْسَلَهُمَا إلى اليَمَنِ، فَقَالَ لَهُمَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.

مَا أَعْظَمَهَا مِنْ وَصِيَّةٍ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُصْلِحَ الأُمَّةَ، أَو أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلى اللهِ تعالى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالأُمَّةِ التَّيِسِيرُ عَلَيْهَا، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الحَبْلُ؟».

قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ».

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: «مَا بَالُ هَذَا؟».

قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ.

قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: دِينُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رُخْصَةٌ بَعْدَ عَزِيمَةٍ، وَلِينٌ مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ، وَيُسْرٌ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ، وَرَفْعٌ للحَرَجِ عَنِ الأُمَّةِ، فَشَرْعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رِفْقٌ وَتَيْسِيرٌ، فَلِلَّهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ إِذْ يَقُولُ تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾. وَيَقُولُ: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾. وَيَقُولُ: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾. وَالقَائِلُ: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾.

فَلِلَّهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ عَلَى نِعْمَةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ المُيَسِّرَةِ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

نَسْأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ عَلَيْهَا، حَتَّى نَلْقَاهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنَّا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 13/جمادى الأولى /1445هـ، الموافق: 27/تشرين الثاني / 2023م