32ـ دينه صلى الله عليه وسلم دين يسر وسماحة (2)

التسامح في البيع والشراء والقضاء

مقدمة الكلمة:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِينَهُ وَشَرْعَهُ دِينُ يُسْرٍ لَا عُسْرَ فِيهِ، وَدِينُ رَحْمَةٍ لَا غِلْظَةَ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَعْنِي التَّسَاهُلَ في أُمُورِ الدِّينِ عَقِيدَةً وَأَحْكَامًا وَسُلُوكًا وَأَخْلَاقًا.

وَلَيْسَ مِنَ التَّيْسِيرِ في هَذَا الدِّينِ أَنْ يَتَلَاعَبَ بَعْضُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَمَامَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَتَعَالِيمِهِ، حَتَّى يَرْضَى هَؤُلَاءِ الأَعْدَاءُ عَنْ هَؤُلَاءِ الأَدْعِيَاءِ، الذينَ نَسُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.

التَّسَامُحُ في البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالقَضَاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الذي جَاءَ بِهِ نَبِيُّ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، أَنَّهُ دَعَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَتْبَاعَهُ إلى التَّسَامُحِ في البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالقَضَاءِ وَسَائِرِ المُعَامَلَاتِ بَيْنَ العِبَادِ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى».

هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَحُضُّنَا عَلَى الجُودِ وَالكَرَمِ وَالسَّخَاءِ في حَالِ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَفي حَالِ المُطَالَبَةِ بِالحَقِّ؛ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا» يَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للمُسَامِحِ، وَيَحْتَمِلُ الخَبَرَ، يَعْنِي سَيَرْحَمُ اللهُ المُسَامِحَ، وَيُقَابِلُ إِحْسَانَهُ للخَلْقِ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ: الجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ، سَهْلًا إِذَا اشْتَرَى، سَهْلًا إِذَا اقْتَضَى».

وَرَوَى الحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ الْقَضَاءِ».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا: تَذَكَّرْ.

قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ.

قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ».

وَفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ البُخَارِيِّ: قَالَ: «كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ».

وَفي رِوَايَةٍ قَالَ: «فَأَقْبَلُ مِنَ المُوسِرِ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ».

وَفي رِوَايَةٍ قَالَ حُذَيْفَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَتَاهُ المَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟

قَالَ: مَا أَعْلَمُ.

قِيلَ لَهُ: انْظُرْ.

قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ، فَأُنْظِرُ المُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ تَعَالِيمِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أَيْنَ نَحْنُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، ـ أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا ـ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيْنَ السَّمَاحَةُ في بَيْعِنَا وَشِرَائِنَا وَسَاعَةِ المُطَالَبَةِ بِحُقُوقِنَا؟

أَيْنَ المَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالمَحَبَّةُ؟

أَيْنَ مَعَانِي الإِيمَانِ وَالأُخُوَّةِ؟

أَيْنَ صِدْقُ الوَفَاءِ وَالالْتِزَامِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الإِنْسَانَ السَّمْحَ أَقْرَبُ إلى رِضَا النَّفْسِ وَهُدُوءِ البَالِ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ القَلَقِ، كَمَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلى قُلُوبِ النَّاسِ وَأَجْدَرُ بِحُبِّهِمْ، وَتُفْتَحُ أَمَامَهُ أَبْوَابُ النَّجَاحِ أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبِ القَلْبِ القَاسِي الذي لَا يَعْرِفُ خُلُقَ السَّمَاحِ.

هَنِيئًا لِمَنْ كَانَ مُسَامِحًا وَسَهْلًا في بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمُقَاضَاتِهِ، بِبِشَارَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ «أَدْخَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا، وَبَائِعًا وَقَاضِيًا، وَمُقْتَضِيًا» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَنِيئًا لِمَنِ الْتَزَمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 12/جمادى الآخرة /1445هـ، الموافق: 25/كانون الأول / 2023م