85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا.

فَتَعَالَوا نَنْعَمْ بِصُوَرٍ مِنْ حَيَاتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَمَّا الصُّورَةُ الأُولَى، فَيَرْوِيهَا دُكَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارَمِيُّ أَحَدُ شُعَرَاءِ الرُّجَازِ البُدَاةِ فَيَقُولُ: امْتَدَحْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ يَوْمَ كَانَ وَالِيًا عَلَى المَدِينَةِ، فَأَمَرَ لِي بِخَمْسَ عَشْرَةَ نَاقَةً مِنْ كَرَائِمِ الإِبِلِ.

فَلَمَّا صِرْنَ في يَدِي تَأَمَّلْتُهُنَّ، فَرَاعَنِي مَنْظَرُهُنَّ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَمْضِيَ بِهِنَّ وَحْدِي في فِجَاجِ الأَرْضِ خَوْفًا عَلَيْهِنَّ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي بِبَيْعِهِنَّ.

وَفِيمَا أَنَا كَذَلِكَ، قَدِمَتْ عَلَيْنَا رُفْقَةٌ تَبْتَغِي السَّفَرَ نَحْوَ دِيَارِنَا في نَجْدٍ فَسَأَلْتُهُمُ الصُّحْبَةَ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ، وَنَحْنُ نَخْرُجُ اللَّيْلَةَ، فَأَعِدَّ نَفْسَكَ لِلخُرُوجِ مَعَنَا.

فَمَضَيْتُ إِلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ مُوَدِّعًا، فَأَلْفَيْتُ (وَجَدْتُ) في مَجْلِسِهِ شَيْخَيْنِ لَا أَعْرِفُهُمَا، فَلَمَّا هَمَمْتُ بِالانْصِرَافِ، الْتَفَتَ إِليَّ عُمَرُ، وَقَالَ: يَا دُكَيْنُ، إِنَّ لي نَفسًا تَوَّاقَةً (رَغَّابَةً عَالِيَةَ المَطَامِحِ) فَإِنْ عَرَفْتَ أَنَّنِي بَلَغْتُ أَكْثَرَ مِمَّا أَنَا فِيهِ الآنَ، فَأْتِنِي، وَلَكَ مِنِّيَ البِرُّ وَالإِحْسَانُ.

فَقُلْتُ: أَشْهِدْ لِي بِذَلِكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ.

فَقَالَ: أُشْهِدُ اللهَ تعالى عَلَى ذَلِكَ.

فَقُلْتُ: وَمِنْ خَلْقِهِ.

فَقَالَ: هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ.

فَأَقْبَلتُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قُلْ لِي مَا اسْمُكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ؟

فَقَالَ: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ.

فَالْتَفَتُّ إِلى الأَمِيرِ وَقُلْتُ: لَقَدِ اسْتَسْمَنْتُ الشَّاهِدَ (ظَفِرْتُ بِشَاهِدٍ مَسْمُوعَ الكَلِمَةِ).

ثُمَّ نَظَرْتُ إِلى الشَّيْخِ الآخَرِ، وَقُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟

فَقَالَ: أَبُو يَحْيَى مَوْلَى الأَمِيرِ.

فَقُلْتُ: وَهَذَا شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهِ.

ثُمَّ حَيَّيْتُ وَانْصَرَفْتُ بِالنُّوقِ إِلى دِيَارِ قَوْمِي في نَجْدٍ فَرَمَى اللهُ فِيهِنَّ البَرَكَةَ حَتَّى اقْتَنَيْتُ مِنْ نِتَاجِهِنَّ الإِبِلَ وَالعَبِيدَ.

ثُمَّ دَارَتِ الأَيَّامُ دَوْرَتَها، فَبَيْنَا أَنَا بِصَحْرَاءِ فَلْجٍ مِنْ أَرْضِ اليَمامَةِ في نَجْدٍ إِذَا نَاعٍ يَنعِي أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ، فَقُلْتُ لِلنَّاعِي: وَمَنِ الخَلِيفَةُ الذي قَامَ بَعْدَهُ؟

فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ.

فَمَا إِنْ سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ حَتَّى شَدَدْتُ رِحَالِي نَحْوَ بِلَادِ الشَّامِ.

فَلَمَّا بِلَغْتُ دِمَشقَ لَقِيتُ جَرِيرًا (أَحَدَ الشُّعَرَاءِ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ) مُنْصَرِفًا مِنْ عِنْدِ الخَلِيفَةِ، فَحَيَّيْتُهُ وَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ يَا أَبَا حَرْزَةَ؟

فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ خَلِيفَةٍ يُعْطِي الفُقَرَاءَ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ، ارْجِعْ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَكَ.

فَقُلْتُ: إِنَّ لِي شَأْنًا غَيْرَ شَأْنِكُمْ.

فَقَالَ: أَنْتَ وَمَا تُرِيدُ.

فَانْطَلَقْتُ حَتَّى بَلَغْتُ دَارَ الخَلِيفَةِ، فَإِذَا هُوَ في بَاحَةِ الدَّارِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ اليَتَامَى، وَالأَرَامِلُ، وَأَصْحَابُ الظُّلَامَاتِ (الذينَ أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ).

فَلَمْ أَجِدْ سَبِيلًا إِلَيْهِ مِنْ تَزَاحُمِهِمْ عَلَيْهِ، فَرَفَعْتُ صَوْتِي قَائِلًا:

يَـــا عُمَرَ الخَيْرَاتِ وَالمَكَارِمِ   ***   وَعُـــمَرَ الــدَّسَائِعِ العَظَائِمِ

إِنِّي امْـرُؤٌ مِـنْ قَطَنَ مِنْ دَارِمٍ  ***   طَلَبْتُ دَيْنِي مِنْ أَخِي المَكَارِمِ

(قَطَن: مَدِينَةٌ في حَضْرَمَوْتٍ) (دَارِم: بَنُو دَارِمٍ مِنْ عَرَبِ الحِجَازِ).

فَنَظَرَ إِلَيَّ مَوْلَاهُ أَبُو يَحْيَى نَظْرَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ عِنْدِي لِهَذَا البَدَوِيِّ شَهَادَةً عَلَيْكَ.

فَقَالَ عُمَرُ: أَعْرِفُهَا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: ادْنُ مِنِّي يَا دُكَيْنُ.

فَلَمَّا صِرْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَالَ عَلَيَّ وَقَالَ: أَتَذْكُرُ مَا قُلْتُهُ لَكَ في المَدِينَةِ مِنْ أَنَّ نَفْسِي مَا نَالَتْ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا تَاقَتْ إِلى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ؟

فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ: وَهَا أَنَا ذَا قَدْ نِلْتُ غَايَةَ مَا في الدُّنْيَا، وَهُوَ المُلْكُ، فَنَفْسِي تَتُوقُ إِلى غَايَةِ مَا في الآخِرَةِ، وَهُوَ الجَنَّةُ، وَتَسْعَى إِلى الفَوْزِ بِرِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلَئِنْ كَانَ المُلُوكُ يَجْعَلُونَ المُلْكَ سَبِيلًا لِبُلُوغِ عِزِّ الدُّنْيَا، فَلَأَجْعَلَنَّهُ سَبِيلًا إِلى بُلُوغِ عِزِّ الآخِرَةِ.

ثُمَّ قَالَ: يَا دُكَيْنُ، إِنِّي وَاللهِ مَا رَزَأْتُ المُسْلِمينَ في أَمْوَالِهِمْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا مُنْذُ وَلِيتُ هَذَا الأَمْرَ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَخُذْ نِصْفَهَا، وَاتْرُكْ لِي نِصْفَهَا.

فَأَخَذْتُ المَالَ الذي أَعْطَانِيهِ، فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَعْظَمَ مِنْهُ بَرَكَةً. كَذَا مِنْ مَوْسُوعَةِ الأَخْلَاقِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ يَرْوِيهَا قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ، يَقُولُ: بَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسِيرُ يَوْمًا فِي سُوقِ حِمْصَ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْدَانِ قِطْرِيَّانِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَرْتَ مَنْ كَانَ مَظْلُومًا أَنْ يَأْتِيَكَ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَقَدْ أَتَاكَ مَظْلُومٌ بَعِيدُ الدَّارِ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَأَيْنَ أَهْلُكَ؟

قَالَ: بِعَدَنَ أَبْيَنَ.

قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ إِنَّ أَهْلَكَ مِنَ أَهْلِ عُمَرَ لَبَعِيدٌ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ فِي مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: مَا ظَلَامَتُكَ؟

قَالَ: ضَيْعَةٌ لِي وَثَبَ عَلَيْهَا وَاثِبٌ فَانْتَزَعَهَا مِنِّي، فَكَتَبَ إِلَى عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ بَيِّنَتِهِ فَإِنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَخَتَمَ كِتَابَهُ.

فَلَمَّا أَرَادَ الرَّجُلُ الْقِيَامَ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: عَلَى رِسْلِكَ، إِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَنَا مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ، فَكَمْ نَفِدَ لَكَ زَادٌ، أَوْ نَفَقَتْ لَكَ رَاحِلَةٌ، وَأَخْلَقَ لَكَ ثَوْبٌ، فَحَسَبَ ذَلِكَ، فَبَلَغَ أَحَدَ عَشَرَ دِينَارًا، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَيْهِ. /حلية الأولياء.

النُّقْطَةُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَسَوْفَ يَأْخُذُ حَقَّهُ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُشَجِّعَ المَظْلُومَ الذي يَقْبَعُ في أَمَاكِنَ نَائِيَةٍ أَنْ يَأْتِيَ إلى الخَلِيفَةِ، وَيَعْرِضَ عَلَيْهِ ظُلَامَتَهُ، وَيَأْخُذَ نَفَقَةَ السَّفَرِ، حَتَّى لَا يَتَثَاقَلَ المَظْلُومُ في أَنْ يَأْتِيَ إلى عُمَرَ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

يوم الاثنين: 3/ رجب / 1445 هـ، الموافق: 15/ كانون الثاني / 2024 م