905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى سِرُّ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَدْ رَتَّبَ عَلَيْهَا كُلَّ خَيْرٍ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

فَفِي الدُّنْيَا مَعِيَّةُ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.

وَفِيهَا الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا نَحْتَسِبُ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.

وَفِيهَا التَّيْسِيرُ في جَمِيعِ أُمُورِنَا، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.

وَفِيهَا تَكْفِيرٌ للسَّيِّئَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾.

أَمَّا في الآخِرَةِ، فَهِيَ سَبَبٌ للنَّجَاةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾. فَلَا نَجَاةَ مِنَ النَّارِ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ أَوْصَلَنَا صِيَامُنَا إلى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ التَّقْوَى، حَتَّى نَكُونَ في مَقْعَدِ صِدْقٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾.

التَّقْوَى مَيْدَانُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ العِبَادِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: التَّقْوَى هِيَ النَّسَبُ الرَّبَّانِيُّ الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى مَيْدَانًا للتَّفَاضُلِ بَيْنَ العِبَادِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا».

فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ.

قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا».

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».

نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَكُنْ حَرِيصِينَ عَلَى نَجَاتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا نَجَاةَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ بِدُونِ عَمَلٍ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الأَحْسَابُ وَالأَنْسَابُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُوَ نَسَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَوَى الحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي جَعَلْتُ نَسَبًا وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا، فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ، وَأَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَقُولُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَكْرَمُ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَإِنِّي الْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ أَنْسَابَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟».

وَرَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي سَعْدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ للهِ، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ».

فَلْيَكُنْ هَذَا هُوَ نَسَبَنَا الحَقِيقِيَّ، هَذَا سَيِّدُنَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ قَبْلَ الإِسْلَامِ مَغْمُورًا لَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ سَقَطِ المَتَاعِ، لَا يُسَاوِي فِلْسًا عِنْدَ الجَاهِلِينَ، وَلَكِنْ بِالتَّقْوَى صَارَ «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» رَوَاهُ الحَاكِمُ

وَكَانَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ التَّقْوَى. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 12/ رمضان /1445هـ، الموافق: 22/ آذار / 2024م