34ـ بدء الوحي

34ـ بدء الوحي

 

بَدْءُ الوَحْيِ .... وَالطَّاهِرَةُ ..... وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ لَهَا ذَلِكَ المَوْقِفُ المُشَرِّفُ، فَزَمَّلَتْهُ وَدَثَّرَتْهُ، وَثَبَّتَتْهُ وَآمَنَتْ بِهِ، ثُمَّ لَمْ تَكْتَفِ بِذَلِكَ فَسَلَكَتْ كُلَّ السُّبُلِ للاطْمِئْنَانِ عَلَى الدَّعْوَةِ في مَهْدِهَا.

كَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَدْ سَمِعَتْ مِنْ مَيْسَرَةَ عِنْدَمَا أَرْسَلَتْ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تِجَارَتِهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، قَالَ مَيْسَرَةُ: خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ، فَنَزَلَ في سُوقِ بُصْرَى فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنْ الرُّهْبَانِ، يُقَالُ لَهُ نَسْطُورَا، فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟

قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ.

فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إلَّا نَبِيٌّ.

وَفي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ تَحْتَهَا أَحَدٌ بَعْدَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ثُمَّ حَضَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُوقَ بُصْرَى، فَبَاعَ سِلْعَتَهُ (أَيْ: تِجَارَتَهُ) التي خَرَجَ بِهَا، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ اخْتِلَافٌ في سِلْعَةٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: احْلِفْ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وَإِنِّي لَأَمُرُّ عَلَيْهِمَا فَأُعْرِضُ عَنْهُمَا.

فَقَالَ الرَّجُلُ: القَوْلُ قَوْلُكَ، وَقَالَ لِمَيْسَرَةَ: أَتَعْرِفُ هَذَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: الْزَمْهُ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ.

ثُمَّ أَقْبَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا إلى مَكَّةَ وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ، فَكَانَ مَيْسَرَةُ إِذَا كَانَتِ الهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الحَرُّ يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ.

فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، بَاعُوا مَتَاعَهُمُ الذي جَاؤُوا بِهِ، وَرَبَحُوا رِبْحًا لَمْ يَرْبَحُوا مِثْلَهُ قَطُّ، فَقَالَ مَيْسَرَةُ: اتَّجَرْنَا لِخَدِيجَةَ أَعْوَامًا كَثِيرَةً، مَا رَأَيْتُ رِبْحًا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الرِّبْحِ عَلَى وَجْهِكَ، فَلَمَّا رَأَتْ خَدِيجَةُ أَنَّ تِجَارَتَهَا قَدْ رَبِحَتْ أَضْعَفَتْ لَهُ مَا سَمَّتْ.

وَلَمَّا دَخَلَ مَيْسَرَةُ عَلَى خَدِيجَةَ أَخْبَرَهَا بِقَوْلِ الرَّاهِبِ نَسْطُورَا، وَقَوْلِ الذي خَالَفَهُ في البَيْعِ.

كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَوَقَّعُ مَا حَدَّثَهَا بِهِ مَيْسَرَةُ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، فَأَصْبَحَتْ تَعْرِفُ كُلَّ خَلْجَةٍ مِنْ خَلَجَاتِ مَشَاعِرِهِ وَأَحَاسِيسِهِ، فَقَدْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ، مُتَرَبِّعَةً في وُجْدَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُخْفِي عَنْهَا شَيْئًا مِمَّا يُلِمُّ بِهِ، بَلْ كَانَ يُفْضِي إِلَيْهَا بِكُلِّ مَا يَجُولُ بِخَاطِرِهِ وَمَا يَجْرِي مَعَهُ في أَدَقِّ تَفْصِيلَاتِهِ.

لَقَدْ بَدَأَ الوَحْيُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ في الصِّدْقِ وَالتَّحَقُّقِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِأَنَّ اللهَ تعالى لَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا خَيْرًا.

ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ لِيَتَفَكَّرَ في هَذَا الكَوْنِ وَمُنْشِئِهِ وَمُدَبِّرِهِ، وَكَانَ مِنَ المُتَوَقَّعِ مِنْ زَوْجَةٍ في مِثْلِ عَطْفِهَا وَحُبِّهَا أَلَّا تَرْضَى بِابْتِعَادِ زَوْجِهَا عَنْهَا يَوْمًا وَاحِدًا، فَكَيْفَ بِأَيَّامٍ وَأَسَابِيعَ.

لَكِنَّهَا خَدِيجَةُ ذَاتُ العَقْلِ وَالقَلْبِ الكَبِيرِ وَالفِكْرِ الرَّاجِحِ، تُؤَيِّدُهُ في هَذَا وَتُزَوِّدُهُ لِيَخْلُوَ بِنَفْسِهِ هُنَاكَ في غَارِ حِرَاءٍ، يَتَحَنَّثُ فِيهِ (يَتَعَبَّدُ) اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهَا حَيْثُ السَّكَنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ ثُمَّ يَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، وَكُلُّ مَا تَرَاهُ الآنَ وَمَا تُحِسُّهُ حَوْلَهَا، وَمَا يُحَدِّثُهَا بِهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ يُؤَيِّدُ مَا تَتَوَقَّعُهُ وَمَا كَانَ حَدَّثَ بِهِ مَيْسَرَةُ.

قَدْ جَاءَهَا الزَّوْجُ الحَبِيبُ خَائِفًا مُرْتَعِدًا تَرْجُفُ أَطْرَافُهُ، وَيَخْفِقُ فُؤَادُهُ، وَهُوَ يَطْلُبُ عِنْدَهَا الاطْمِئْنَانَ قَائِلًا: «دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي» وَفَتَحَتْ لَهُ قَلْبَهَا وَآوَتْهُ وَزَمَّلَتْهُ وَدَثَّرَتْهُ، وَأَخْبَرَهَا بِنَبَأِ الوَحْيِ وَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».

فَكَانَ جَوَابُ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ: كَلَّا، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.

مَا أَرْوَعَهُ مِنْ مَوْقِفٍ وَمَا أَجَلَّ مَا حَبَاكِ بِهِ اللهُ أَيَّتُهَا الطَّاهرَةُ مِنْ عَقْلٍ وَحِكْمَةٍ!! وَمَا أَعْظَمَ مَا اسْتَقْبَلْتِ بِهِ النَّبَأَ الذي هَزَّ المُصْطَفَى الحَبِيبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَرَوَّعَهُ!!

وَهَكَذَا جَعَلَهَا اللهُ عَوْنًا وَوَزِيرًا لِحَبِيبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَشُدُّ أَزْرَهُ وَتُثَبِّتُهُ، وَقَدْ رَوَى البَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ، أَنَّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَتْ تُثَبِّتُهُ: يَا بْنَ عَمِّ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِيِ بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي.

فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا يَوْمًا إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا خَدِيجَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَاءَنِي».

قَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

فَقَالَتْ: فَاجْلِسْ إِلَى شِقِّي الْأَيْسَرِ.

فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ «نَعَمْ».

قَالَتْ: فَاجْلِسْ إِلَى شَقِّيَ الْأَيْمَنِ.

فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَتْ: فَتَحَوَّلَ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي.

فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

فَتَحَسَّرَتْ فَأَلْقَتْ خِمَارَهَا.

فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟

قَالَ: «لَا».

قَالَتْ: مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ، إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ يَا ابْنَ الْعَمِّ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ؛ ثُمَّ آمَنَتْ بِهِ؛ وَشَهِدَتْ أَنَّ الَّذِيَ جَاءَ بِهِ الْحَقُّ.

وَقَبْلَ أَنْ نَسْتَرْسِلَ في هَذِهِ القِصَّةِ المُهِمَّةِ دَعُونَا نَتَوَقَّفْ لَحْظَةً عِنْدَ هَذَا المَوْقِفِ مِنَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، لِأَنَّ قَوْلَهَا للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا حَدَّثَهَا عَمَّا رَآهُ حِينَ جَاءَهُ الوَحْيُ أَوَّلَ مَرَّةٍ: كَلَّا وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.

لَقَدْ أَقْسَمَتْ بِأَنَّ اللهَ تعالى لَا يُخْزِي مَنْ يَحْمِلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَفي قَسَمِهَا هَذَا إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إلى صَفَاءِ فِطْرَتِهَا، وَإلى ثِقَتِهَا العُظْمَى بِاللهِ تعالى، وَفي ذَلِكَ إِشَارَةٌ أَيْضًا إلى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَمْدُوحَةٌ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهِيَ صِفَاتٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ، وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وتعالى في الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ ثُمَّ في شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ.

لَعَلَّ الجَوَابَ هُنَاكَ عِنْدَ ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَلِمَاذَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ؟

إِنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّهُ امْرُؤٌ نَبَذَ أَوْهَامَ المُجْتَمَعِ المُكِّيَ وَتُرَّهَاتِهِ وَأَوْثَانَهُ وَتَنَسَّكَ مُنْذُ دَهْرٍ وَتَوَجَّهَ بِقَلْبِهِ وَعَقْلِهِ إلى عِبَادَةِ اللهِ، وَرَاحَ يَبْحَثُ وَيَدْرُسُ في الدِّيَانَاتِ السَّمَاوِيَّةِ البَاقِيَةِ، دَرَسَ اللُّغَةَ العِبْرَانِيَّةَ وَقَرَأَ بِهَا الإِنْجِيلَ ـ وَرُبَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ ـ وَاتَّخَذَ النَّصْرَانِيَّةَ دِينًا لِأَنَّهُ شَعَرَ بِأَنَّهَا الدِّيَانَةَ الوَحِيدَةَ القَرِيبَةَ مِنَ الحَقِّ، لَقَدْ قَرَأَ الإِنْجِيلَ وَدَرَسَهُ بِالعِبْرَانِيَّةِ، دِرَاسَةً مُتَأَنِّيَةً، وَاخْتَارَ وَكَتَبَ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَتَعَمَّقَ في الإِنْجِيلِ وَفَهِمَ مَا فِيهِ مِنْ بِشَارَاتٍ فَهْمًا حَقِيقِيًّا دُونَ تَبْدِيلٍ، وَعَلِمَ مِنْهُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ أَطَلَّ زَمَانُهُ، وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الكِتَابِ يَنْتَظِرُونَهُ.

وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وَمَعَهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَتْ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.

فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟

فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى.

فَاهْتَزَّ وَرَقَةُ اهْتِزَازًا عَنِيفًا وَمَا تَمَالَكَ أَنْ هَتَفَ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا (شَابًّا قَوِيًّا) أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟».

فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

لَقَدْ أَيْقَنَ وَرَقَةُ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذي يَنْتَظِرُهُ وَيَنْتَظِرُهُ مَعَهُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الكِتَابِ، وَأَنَّ رَبَّ السَّمَاءِ قَدِ اخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِحَمْلِ آخِرِ رِسَالَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرضِ، لَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَنَطَقَ بِتِلْكَ الكَلِمَاتِ التي تَهُزُّ المَشَاعِرَ.

وَسَمِعَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتِ وَرَقَةَ وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ مُخْتَارٌ مِنْ رَبِّ السَّمَاءِ، وَسَمِعَتِ السَّيِّدَةُ الطَّاهِرَةُ تِلْكَ الكَلِمَاتِ فَكَانَ سُرُورُهَا عَظِيمًا.

مَا أَعْظَمَ حَظَّهَا حِينَ اخْتَارَتِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ زَوْجًا لَهَا، وَمَا أَعْظَمَ مَا حَبَتْهَا بِهِ القُدْرَةُ الإِلَهِيَّةُ وَمَا أَكْرَمَهَا بِهِ رَبُّ السَّمَاءِ إِذْ جَعَلَ بَيْتَهَا مَهْبِطَ الوَحْيِ، وَاخْتَارَ زَوْجَهَا الحَبِيبَ لِيَكُونَ نَبِيًّا، وَمَا أَعْظَمَ سَعَادَتَهَا وَهِيَ تَعُودُ بِالمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى بَيْتِهَا.

هَلْ يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَتَخَيَّلَ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ التي عَاشَتْهَا تِلْكَ السَّيِّدَةُ العَظِيمَةُ الطَّاهِرَةُ، وَهِيَ تَسْتَمِعُ إلى ابْنِ عَمِّهَا الشَّيْخِ الوَرِعِ الزَاهِدِ يَقُولُ بِقَلْبٍ مُطْمَئِنٍّ: إِنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ.

وَكَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قَدْ كَبِرَ وَعَمِيَ، وَلَمْ يَعُدْ يُبْصِرُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ فَرِحًا بِلِقَاءِ الرَّسُولِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفَرِحَ وَهُوَ يَسْمَعُ مِنْهُ إِرْهَاصَاتِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرَ الرِّسَالةِ.

لَقَدْ كَانَتْ سَعَادَتُهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا غَامِرَةً وَهِيَ تَتَلَقَّى البُشْرَى بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ هَذِهِ الكَلِمَاتُ مِنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ جَعَلَتْهَا سَعِيدَةً، وَغَمَرَتْ قَلْبَهَا فَرَحًا وَسُرُورًا، فَقَدْ جَاءَتْ تَأْكِيدًا لِمَا كَانَ يُحَدِّثُهَا بِهِ زَوْجُهَا الأَمِينُ، وَلِمَا كَانَتْ تَرَاهُ مِنْ رُؤًى، وَتَشْعُرُ بِهِ مِنْ مَشَاعِرَ، ثُمَّ كَيْفَ كَانَتْ تَرَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ حُبِّبَتْ إِلَيْهِ الخَلْوَةُ، وَأَصْبَحَ يَمِيلُ إلى البُعْدِ عَنِ النَّاسِ، فَلَمَّا جَاءَهَا بِخَبَرِ السَّمَاءِ، وَآتٍ يَأْتِيهِ وَرُؤْيَتِهِ للمَلَكِ، ثُمَّ كَيْفَ فَاجَأَهُ الوَحْيُ في غَارِ حِرَاءٍ، كُلُّ هَذِهِ الأُمُورِ جَعَلَتْهَا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ وَأَسْرَعَ المُصَدِّقِينَ، وَلَمْ تَكْتَفِ بِذَلِكَ بَلْ حَرَصَتْ عَلَى إِعَانَتِهِ في تَحَمُّلِ هَذَا العِبْءِ: اصْبِرْ يَا بْنَ العَمِّ، فَإِنِّي وَاللهِ أَحْسَبُ أَنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ المُنْتَظَرُ.

سَبَقَتِ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِالإِيمَانِ، بِمُجَرَّدِ أَنْ أَخْبَرَهَا بِنُزُولِ جِبْرِيلَ وَبَدْءِ الرِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ.

كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ، كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ وَقَفَ مَعَهُ، كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَعَهُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الفَرَائِضُ.

وَرَجَعَتْ إلى بَيْتِهَا وَهِيَ سَعِيدَةٌ فَرِحَةٌ بِنَشْوَةِ البُشْرَى، وَأَدْرَكَتْ عِظَمَ المُسْؤُولِيَّةِ المُلْقَاةِ عَلَى هَذَا الحَبِيبِ بِمُجَرَّدِ مَا سَمِعَتْ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾.

فَاسْتَعَدَّتْ لِتَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَثَبَتَتْ تُعِينُهُ وَتُؤَيِّدُهُ وَتَنْصُرُهُ وَتَقِفُ مَعَهُ، فَقَدِ اخْتَارَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ لِتَكُونَ عَوْنًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

وَظَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الحَالِ، وَبَقِيَتْ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ المُشْرِقَةِ صَادِقَةً مُصَدِّقَةً مُؤْمِنَةً مُحْتَسِبَةً مُضَحِّيَةً بِكُلِّ مَا تَمْلِكُ في سَبِيلِ عَوْنِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يُؤَدِّيَ حَقَّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ، وَيُؤَدِّيَ الأَمَانَةَ.

إِنَّهَا خَدِيجَةُ، الزَّوْجَةُ المُؤْمِنَةُ، وَالرَّفِيقَةُ، وَالمُعِينَةُ، وَالمُؤَيِّدَةُ، وَالمُدَثِّرَةُ، وَالمُزَمِّلَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 22/ صفر الخير /1445هـ، الموافق: 7/أيلول / 2023م