6ـ العهد الثاني (اتباع السنة النبوية)(1)

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى:

(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتَّبع السنة المحمَّدية في جميع أقوالنا وأفعالنا وعقائدنا، فإن لم نعرف لذلك الأمر دليلاً من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس توقَّفنا عن العمل به).

أقول أيها الإخوة الكرام:

إن اتباع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم واجب على الأمة، وواجب على كلِّ فردٍ في هذه الأمة، ما دام الإيمان بالاختيار، فمن آمن بالاختيار لا يسعه إلا الاتباع لمن آمن به.

ومن الطبيعي أن يكون لكلِّ واحد منا متبوع وآمر، فانظر يا أخي الكريم من هو متبوعك؟ ومن هو آمرك؟

فالشقاء كلُّ الشقاء أن يكون متبوعك هواك، والآمر عليك نفسك الأمَّارة بالسوء، أو أن يكون متبوعك شيطان من شياطين الإنس أو الجن، وأن يكون الآمر عليك واحداً منهما.

والسعادة كلُّ السعادة، أن يكون متبوعك والآمر عليك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومن فضل الله عز وجل علينا أن جعل الحبيبَ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم متبوعَنا وآمرَنا.

فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم هو حظُّنا من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ونحن حظُّه من سائر الأمم، كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأُمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ). وشتَّان ما بين الحظين.

كم هو حظُّنا عظيم عندما كان الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أسوتنا وقدوتنا، وهو المعصوم المؤيَّد المرفوع على سائر الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. وروى الإمام الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي وَلا فَخْرَ).

أيها الإخوة الكرام: السعيد حقاً من جعل متبوعه وآمره لا يتخلَّى عنه، ولا يتبرَّأ منه يوم القيامة، فكم من متبوع يتبرَّأ من تابعه يوم القيامة؟ وكم من آمر يتبرَّأ من مأموره يوم القيامة؟ قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}. فالتابع والمتبوع، والآمر والمأمور، يتبرَّأ كلُّ واحد منهما من الآخر، إلا المتقين، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.

فهناك متبوع وآمر بالضلال والعياذ بالله تعالى، وهذا سوف يقول أتباعُه يوم القيامة: {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ}.

متبوعنا معصوم بفضل الله تعالى:

أيها الأحبة الكرام: من سعادتنا أن يؤخذ علينا العهد من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أن نتَّبع سنته في أقوالنا وأفعالنا وأخلاقنا، لأنه معصوم ومؤيَّد.

ويجب أن تكون طاعتنا لأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مطلقة بدون قيدٍ ولا شرط، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ولأنَّ طاعته هي عين طاعة الله عز وجل، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.

بل أقول: يجب أن نطيع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم طاعةً مطلقة مع التسليم الكامل وبدون أيِّ اعتراض، وذلك لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

فالسعيد هو الذي جعل متبوعه وآمره الكامل والمُكمِّل لغيره، كما قال بعض الصالحين: اتباع الكامل يُكمِّل، واتباع الناقص يُنقِّص، فالشرف عظيم لمن كان متبوعه وآمره الذي تولاه الله تبارك وتعالى بالتربية فقال في حقه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}.

اتباع الوارث واجب على الأمة:

أيها الإخوة الكرام: قد يقول البعض أين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حتى نمتثل أمره، ونجعله متبوعاً لنا؟

أيها الإخوة: إن كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قد خرج من الدنيا بجسده الشريف، فقد ترك لنا وُرَّاثاً له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (إنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ، وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً، وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ).

فهم وُرَّاثه الكرام رضي الله عنهم، يعلِّمون الناسَ الكتاب والحكمة، ويُزَكُّون هذه الأمة، ولكن يجب على التابع أن يكون على بصيرة من أمره، وأن يعرف الأدلة من الكتاب والسنة على كلِّ أمر من الأمور يقوم به.

ما هو السرُّ في التدقيق على معرفة الدليل:

أيها الإخوة الكرام: والسرُّ في التدقيق على معرفة الدليل هو أن نكون متَّبعين لا مبتدعين في دين الله عز وجل، لأن المبتدع في دين الله عز وجل مطرود يوم القيامة عن حوض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَلأُنَازِعَنَّ أَقْوَامًا ثُمَّ لأُغْلَبَنَّ عَلَيْهِمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ).

وهذا ما أكَّده الإمام الشعراني رحمه الله تعالى بقوله:

(ثم ننظر فإن كان ذلك الأمر قد استحسنه بعض العلماء، استأذنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه، ثم فعلناه أدباً مع ذلك العالم، وذلك كلُّه خوف الابتداع في الشريعة المطهرة، فنكون من جملة الأئمة المضلين).

أقول أيها الإخوة الكرام:

فإذا استحسن بعض العلماء أمراً من الأمور استأذنَّا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيه، وذلك بالبحث عن أصلٍ له في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فإن وجدنا له أصلاً فعلناه تأدُّباً مع ذلك العالم، وذلك لما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: (فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ)؟

الأدلَّة على مشروعيَّة المولد:

أيها الإخوة الكرام: قد يقول أحدكم: ما دام المؤمن حريصاً كلَّ الحرص على الاتباع، فهل الاحتفال بذكرى المولد من الاتِّباع، وخاصة نحن نعيش ذكرى المولد؟

أحبابَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما قلت قبل قليل: ما استحسنه بعض العلماء من الأمور ننظر إن وجدنا له أصلاً من الكتاب والسنة فعلناه، وإلا فلا.

وهل أفعال المولد لها أصل من الكتاب والسنة أم لا؟

لا شكَّ أن أفعال المولد لها أصل من الكتاب والسنة، لأن المولد فيه تلاوةٌ للقرآن ومدارسةٌ له، وهذا له أصلٌ، وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وكذلك بالنسبة لمديح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم له أصل، لأنه كان يوضع لحسان بن ثابت منبر لينافح ويدافع عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا يُفَاخِرُ أَوْ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وكذلك بالنسبة لذكر الله في الملأ له أصل، من خلال ما ورد في الحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ مِنْ النَّاسِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَطْيَبَ).

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيها الإخوة الكرام: فمن فضل الله عز وجل علينا أن ألزمنا بطاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}.

فطاعتنا لله تعالى ولسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مطلقة بدون قيد ولا شرط، وما عدا ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ورحم الله تعالى ابن عطاء الله السكندري عندما قال: من علامات النُّجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات. اهـ.

ومن الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}.

فضمان سعادة الدنيا والآخرة هو اتباع الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

اللهم وفِّقنا لذلك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**     **     **