34ـ آداب الصائم: الأدب السابع: اغتنام العشر الأواخر(3)

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

خلاصة الدرس الماضي:

فقد ذكرنا في الدرس الماضي بأن الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، اعمل لآخرتك، فأكثر من الطاعات في هذه الأيام المتبقية من العشر الأواخر، وعلى رأس هذه الأعمال الاعتكاف الذي سَنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة ورغَّب فيه، فإن لم تتمكن من الاعتكاف المسنون فليكن المندوب، ولو أن تعتكف في كل يوم سويعات في بيت الله تعالى لتريح قلبك من عناء الدنيا وظلماتها.

المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد:

أخي الصائم إن فاتك الاعتكاف لواجب مترتِّب عليك، فلا تفوتك الصلاة في جماعة، وأن تكون صلاتك في بيت من بيوت الله عز وجل، وتعال لنسمع سوية ماذا يحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الجماعة:

1ـ روى البخاري عن أَبي هريرة رضيَ اللَّه عنهُ قال: قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (صَلاةُ الرَّجُلِ في جَماعةٍ تُضَعَّفُ عَلى صلاتِهِ في بَيْتِهِ وفي سُوقِهِ خمساً وَعِشْرينَ ضِعفًا، وذلكَ أَنَّهُ إِذا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُه إِلاَّ الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَه بهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّتْ عَنْه بهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذا صَلى لَمْ تَزَلِ المَلائِكَة تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ في مُصَلاَّه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارحَمْهُ، وَلا يَزَالُ في صَلاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ).

2ـ روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ).

وفي رواية أخرى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ).

السنة نوعان: سنة الهدى أي مكمل الدين، وتاركها مسيء يستحق اللوم كالجماعة والأذان والإقامة، وسنة الزوائد وتاركها لا يستحقه كسِيَر النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه وقعوده وقيامه، ونومه وأكله وشربه.

وترك سنة الهدى يؤدي إلى الضلال بأن تتركوا عرى الإسلام شيئاً فشيئاً حتى تخرجوا من الملة.

3ـ روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الصَّلاةِ فِي الْجَمَاعَةِ مَا لِهَذَا الْمَاشِي إِلَيْهَا لأَتَاهَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ).

4ـ روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ).

5ـ روى الإمام أحمد عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قال: (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَقَالَ: شَاهِدٌ فُلانٌ؟ فَقَالُوا: لا، فَقَالَ: شَاهِدٌ فُلانٌ؟ فَقَالُوا: لا، فَقَالَ: شَاهِدٌ فُلَانٌ؟ فَقَالُوا: لا، فَقَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ مِنْ أَثْقَلِ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَالصَّفُّ الْمُقَدَّمُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لابْتَدَرْتُمُوهُ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ رَجُلٍ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى).

6ـ روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ الْعِشَاءِ وَصَلاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ).

وفي رواية مسلم: (لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَهَا يَعْنِي صَلاةَ الْعِشَاءِ).

نعم قد يقول أحدنا: لو صليت مع زوجتي وولدي في البيت ألا يكتب لي أجر الجماعة؟

الجواب: نعم يكتب لك أجر الجماعة، إذا صليت مع زوجتك، أو مع ولدك، أو صديق لك، أو مع الأجير الذي عندك، لأنه بحمد الله عز وجل جُعِلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً، أي جعلت لنا مكاناً للسجود، فحيث أدركتنا الصلاة صليناها، وهذا من خصوصيات هذه الأمة روى الإمام مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).

ولكن هل تدري ماذا فوَّتَّ على نفسك؟

الجواب: لقد فوَّتَّ على نفسك ما يلي:

أولاً: رفع الدرجات: (لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ).فكم من الدرجات ضُيِّعت؟ وقد كان السلف الصالح إذا خرج إلى المسجد قارب بين خطاه لتكثر خطواته، ولتزداد درجاته في الجنة.

ثانياً: حطَّ الخطيئات: (وَحُطَّ بِهَا عَنْهُ خَطِيئَةٌ). فكم من الخطيئات التي كتبت عليك فلم تحطها عنك بخطواتك إلى المسجد؟

ثالثاً: دعاء الملائكة لك (لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ). لقد فوَّتَ على نفسك صلاة الملائكة عليك بعدم شهودك الجماعة في المسجد.

رابعاً: فوَّتَّ على نفسك صلاة: (وَلا يَزَالُ في صَلاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ). لقد فوَّتَ على نفسك أجر الصلاة وأنت جالس في المسجد تنتظر إقامة الصلاة.

خامساً: فوَّتَّ على نفسك إحياء سنة الهدى: (وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى). شهود صلاة الجماعة في المسجد من سنن الهدى، وتارك سنة الهدى قد يعرض نفسه للضلال لا قدَّر الله تعالى، لأن من صلى الجماعة في بيته ربما أن يفوَّت على نفسه السنة القبليَّة والبعديَّة، ومن فوتَّهما ربما فوَّت الصلاة الواجبة، ومن فوَّت الصلاة الواجبة ربما فوَّت صلاة الفريضة، ومن فوَّت الفريضة فقد ضل، لأن الصلاة آخر عرى الإسلام كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ).

سادساً: فاتتك حسنات كثيرة: (إلا كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ). فبكلِّ خطوة حسنة، وكما قلت: كان السلف الصالح يقاربون خطاهم إذا خرجوا إلى المسجد طمعاً بهذا الأجر العظيم.

سابعاً: تنفي عن نفسك صفة النفاق: (وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ). بشهود الجماعة تنفي عن نفسك صفة النفاق وتثبت نقيضها بإذن الله تعالى، لما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه الإمام عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}).

ثامناً: ألا تخجلك هذه الصورة؟ (وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ). أما تخجلك هذه الصورة؟ عندما ترى رجلاً عجوزاً شيخاً هرماً يتحامل على عكازة له وهو متوجِّه إلى بيت الله ليشهد الجماعة، وأنت تتقلب في الصحة والعافية، ما أنت قائل لربك يوم القيامة وقد متَّعك الله بالشباب والحيوية والقوة؟ ما أنت قائل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حيث نصحك بقوله: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الحاكم؟

تاسعاً: فوَّتَّ على نفسك أجراً لا يعلمه إلا الله: (لَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الصَّلاةِ فِي الْجَمَاعَةِ مَا لِهَذَا الْمَاشِي إِلَيْهَا لأَتَاهَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ). أيرضيك هذا؟

عاشراً: فوَّتَّ على نفسك براءتين: (مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ). بترك صلاة الجماعة في المسجد فوَّتَّ على نفسك براءتين: براءة من النار، وبراءة من النفاق.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

يا من فاته الاعتكاف في العشر الأواخر، لا تفوِّت على نفسك صلاة الجماعة في المسجد لتنال تلك الخيرات التي ذكرت لك بعضاً منها.

نسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن شهد الجمعة والجماعة، ورأى ثمار هذه الصلوات عاجلاً غير آجل. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **