47ـ كلمة في فجر يوم عيد الفطر1432هـ الزهد في الآخرة يولد الخصام على الدنيا

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن اختلاف الأفهام واشتجار الآراء ليس بمستغرب في الحياة، ولكن شريطة أن لا يؤدي ذلك للتقاطع و التفرُّق والشقاق.

ولو تجرَّدت النيات للبحث عن الحقيقة، وأقبل أصحاب الرأي وهم متجرِّدون عن الأهواء والشهوات والعصبيَّات، بعيدون عن حبِّ الظهور والغلبة، وعن حبِّ الشهرة والسمعة، بعيدون عن حبِّ الرياسة والريادة والتسلُّط والتحكُّم، لَصُفِّيَت المنازعات والخلافات التي ملأت التاريخ الماضي والحاضر بالأكدار والمآسي، حيث سُفِكَت الدماء البريئة، وانتُهِكَت الأعراض، وتُعُدِّيَ على أعظم كلمة قالها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والنبيون من قبله، ألا وهي لا إله إلا الله.

وإذا تُعُدِّيَ على عقيدة المسلم فلا غرابة أن يُتعدَّى بعد ذلك على بيوت الله تعالى.

الباطل يُفرِّق الأمة:

أيها الإخوة الكرام: إذا لم يجتمع الناس على الحقِّ، فرَّقهم الباطل، والحقُّ هو ما جاء من الحقِّ جلَّ جلاله، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ}. وقال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُون}.

إذا لم يجتمع الناس على الإسلام، فرَّقتهم الأهواء والأحزاب والعصبيات والقوميات، إذا لم يتذكَّر الناس قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}. عاثوا في الأرض فساداً، وبغى بعضهم على بعض.

العرب قبل الإسلام فرَّقهم الباطل، وانتشر فيهم الظلم والجهل، ولكن عندما حملوا الأمانة التي عرضها الله عز وجل على {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}. انتفى عنهم الظلم والجهل.

نعم عندما حملوا الأمانة بحقٍّ اجتمعت كلمتهم، وتوحَّدت صفوفهم، وظهرت فيهم بشارة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، عندما قال لعمه أبي طالب: (يَا عَمِّ إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ) أخرجه الإمام أحمد.

وهذا ما تحقَّق للأمة عندما اجتمعوا على الحقِّ الذي جاء به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من عند الله تعالى، حتى صارت الأمة التي كانت مبعثرة متفرِّقة متخاصمة متقاتلة، خيرَ أمةٍ أخرجت للناس.

الزهد في الآخرة يولِّد الخصام على الدنيا:

أيها الإخوة الكرام: الأمة إذا لم يستهوِها نعيم الآخرة تخاصمت على متاع الدنيا، وكان التنازع والتطاحن المُرُّ القاسي، وكان سفك الدماء وانتهاك الأعراض، وهذا ليس من وصف المؤمنين الذي ارتبطوا بالآخرة.

من هذا المنطلق حذَّر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الأمة من ذلك بقوله: (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) رواه البخاري عن جرير رضي الله عنه. لأن العِراك الدامي هو شأن الكافر الذي غابت عنه الآخرة.

انظروا إلى سلف الأمة الذين استهواهم نعيم الآخرة كيف تركوا الخصام من أجل الدنيا، وأقبلوا طالبين الآخرة، زاهدين في نعيم الدنيا الذي لا يدوم للعبد، ولو دام للعبد فلن يدوم العبد له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم القائل: (مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى) رواه الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

مثال عمن استهواه نعيم الآخرة:

أيها الإخوة الكرام: انظروا إلى رجل استهواه نعيم الآخرة، كيف ترك متاع الدنيا وزينتها وزخرفها لينال نعيم الآخرة الذي وعد الله تعالى به عباده المتقين.

هذا الرجل هو سيدنا الحسن رضي الله عنه الذي تربى في حِجر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والذي قال عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) رواه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه.

كيف كان هذا؟

اجتمع أهل العراق على سيدنا الحسن يريدون مبايعته بعد مقتل سيدنا علي رضي الله عنه، فاشترط عليهم: إنكم لي سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت. رواه الحاكم في مستدركه.

فارتاب أهل العراق في أمره حين اشترط هذا الشرط قالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال، فحاولوا مبايعة الحسين بدلاً منه، فأبى، فاضطروا مرغمين إلى مبايعة الحسن.

فقام وتنازل عن الخلافة لسيدنا معاوية رضي الله عنهما، وأصلح بين أهل العراق وأهل الشام.

هؤلاء الرجال أحبُّوا آخرتهم، واستهواهم نعيم الآخرة، فتركوا الدنيا لأهل الدنيا حقناً لدماء المسلمين، هؤلاء سمعوا قول سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاةَ، لا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاةَ، أَلا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) رواه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.

هؤلاء سمعوا حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَنْ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ فَإِنَّ صَلاتَهُ لا تُجَاوِزُ تَرْقُوَتَهُ) رواه الطبراني عن أبي عبد الرحمن الصنعاني.

وسمعوا قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

هؤلاء الذين استهواهم نعيم الآخرة هربوا من تحمُّل المسؤولية خشية أن تصيبهم دعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ).

لهذا رأينا سيدنا عمر رضي الله عنه الذي استهواه نعيم الآخرة عندما قال الناس له: المسلمون يرضون عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (حسب آل الخطاب ما تحمَّلوا منها!) وفي رواية: (حسب آل الخطاب أن يدان منهم رجل بالخلائق!) وفي رواية: (يكفي أن يسأل واحد من آل الخطاب عن إمرة أمير المؤمنين!) وفي رواية: (بِحَسْب آل الخطَّاب أن يُحاسَب منهم رجلٌ واحد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولوددتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كَفافاً لا لي ولا علي).

التنازع يعطي دروساً مؤلمة:

أيها الإخوة الكرام: إن التنازع على الدنيا يعطي دروساً مؤلمة، ويسبِّب سفكاً للدماء، وخراباً للبلاد، وشماتةً للأعداء.

لقد تلقى المسلمون يوم أحد دروساً مؤلمة أبكت القلوب عوضاً عن العيون، حيث أفقدهم سبعين رجلاً من خيرتهم، على رأسهم سيدنا حمزة رضي الله عنه، عمُّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وردَّهم إلى المدينة المنورة وهم يعانون من آلام الجراح، لماذا وهم الصفوة المختارة من خلق الله تعالى، وكانت المعركة لصالحهم، حيث ولَّى المشركون الأدبار في أول المعركة؟

لأن بعضهم ـ لا كلَّهم ـ تنازع وعصى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونزل قول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}.

الإسلام حريص على سلامة الأمة:

أيها الإخوة الكرام: الإسلام حريص على سلامة الأمة وحفظ كيانها وكرامتها، حريص على جمع الكلمة على الحق، وإطفاء نار الخلاف والنزاع، فهاب بالأفراد عامة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من الشقاق والنزاع والخصام والتدابر وسفك الدماء، فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلَى النَّارِ) رواه الترمذي عن عبد الله بن دينار رضي الله عنه.

وأعداء هذا الدين أُمنيتهم أن يتمكَّنوا ولو من رجل واحد، ليكون طرفاً ناتئاً يجتذبون الأمة كلَّها عن طريقه من أجل سفك الدماء وقتل الأبرياء وإتلاف أموال المسلمين.

ختاماً:

اسمعوا حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ؛ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ؛ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

فيرقِّق بعضها بعضاً: أي يَصِير بَعْضهَا رَقِيقًا، أَيْ: خَفِيفًا لِعِظَمِ مَا بَعْده، فَالثَّانِي يَجْعَل الأَوَّل رَقِيقًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُشْبِه بَعْضهَا بَعْضًا.

أسأل الله تعالى أن يحفظ العباد والبلاد من شرِّ الأشرار وكيد الفجار، وأن يجمع شملها على الكتاب والسنة، وأن تكون على بصيرة من أمرها، وأن لا يُشمِت بها عدوَّها. آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

**     **     **