38ـ من وصايا الصالحين: اسمع أيها المسؤول واسمع يا طالب العلم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإلى كُلِّ مسؤولٍ صَغيرٍ أو كبيرٍ، وإلى كلِّ طالبِ علمٍ، أقول:

اسمع إلى وصيَّةِ الفُضَيلِ بنِ عياضٍ لِهارونَ الرَّشيدِ رحمَهُمَا الله تعالى.

جاء في سير أعلام النبلاء:

قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الجَرْمِيُّ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا الفَضْلُ بنُ الرَّبِيْعِ، قَالَ: حَجَّ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ ـ يَعْنِي: هَارُوْنَ ـ   فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ! قَدْ حَكَّ فِي نَفْسِي شَيْءٌ، فَانْظُرْ لِي رَجُلاً أَسْأَلْهُ.

فَقُلْتُ: هَا هُنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ رحمهُ اللهُ.

فَقَالَ: امضِ بِنَا إِلَيْهِ.

فَأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعتُ بَابَه، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟

فَقُلْتُ: أَجِبْ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ.

فَخَرَجَ مُسْرِعاً، فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! لَوْ أَرْسَلتَ إِلَيَّ، أَتَيْتُكَ.

فَقَالَ: خُذْ لِمَا جِئْتُكَ لَهُ.

فَحَدَّثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَينٌ؟

قَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ لِي: اقْضِ دَيْنَهُ.

فَلَمَّا خَرَجْنَا، قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُكَ شَيْئاً.

قُلْتُ: هَا هُنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ رحمهُ اللهُ.

قَالَ: امضِ بِنَا إِلَيْهِ.

فَأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعتُ البَابَ، فَخَرَجَ، وَحَادَثَه سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: عَلَيْكَ دَينٌ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: أَبَا عَبَّاسٍ! اقْضِ دَيْنَهُ.

فَلَمَّا خَرَجْنَا، قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُك شَيْئاً، انْظُرْ لِي رَجُلاً أَسْأَلْهُ.

قُلْتُ: هَا هُنَا الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رحمهُ اللهُ.

قَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ.

فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَتْلُو آيَةً يُرَدِّدُهَا، فَقَالَ: اقْرَعِ البَابَ.

فَقَرَعتُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟

قُلْتُ: أَجِبْ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ.

قَالَ: مَا لِي وَلأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ؟

قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! أَمَا عَلَيْكَ طَاعَةٌ؟

فَنَزَلَ، فَفَتَحَ البَابَ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الغُرفَةِ، فَأَطْفَأَ السِّرَاجَ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى زَاوِيَةٍ، فَدَخَلْنَا، فَجَعَلْنَا نَجُولُ عَلَيْهِ بِأَيْدِيْنَا، فَسَبَقَتْ كَفُّ هَارُوْنَ قَبْلِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا لَهَا مِنْ كَفٍّ مَا أَلْيَنَهَا إِنْ نَجَتْ غَداً مِنْ عَذَابِ اللهِ!

فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيُكَلِّمَنَّهُ اللَّيْلَةَ بِكَلاَمٍ نَقِيٍّ مِنْ قَلْبٍ تَقِيٍّ.

فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئنَاكَ لَهُ ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ.

فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ رحمه الله لمَّا وَلِيَ الخِلاَفَةَ، دَعَا سَالِمَ بنَ عَبْدِ اللهِ، وَمُحَمَّدَ بنَ كَعْبٍ، وَرَجَاءَ بنَ حَيْوَةَ، فَقَالَ لَهُم: إِنِّيْ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا البَلاَءِ، فَأَشِيْرُوا عَلَيَّ؛ فَعَدَّ الخِلاَفَةَ بَلاَءً، وَعَدَدْتَهَا أَنْتَ وَأَصْحَابُك نِعمَةً.

فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ فَصُمِ الدُّنْيَا، وَلْيَكُنْ إِفْطَارُكَ مِنْهَا المَوْتَ.

وَقَالَ لَهُ ابْنُ كَعْبٍ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَلْيَكُنْ كَبِيْرُ المُسْلِمِيْنَ عِنْدَك أَباً، وَأَوْسَطُهُم أَخاً، وَأَصْغَرُهُم وَلداً، فَوَقِّرْ أَبَاكَ، وَأَكْرِمْ أَخَاكَ، وَتَحَنَّنْ عَلَى وَلَدِكَ.

وَقَالَ لَهُ رَجَاءٌ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَأَحِبَّ لِلْمُسْلِمِيْنَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُم مَا تَكرَهُ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ مُتْ إِذَا شِئْتَ.

وَإِنِّيْ أَقُوْلُ لَكَ هَذَا، وَإِنِّيْ أَخَافُ عَلَيْكَ أَشَدَّ الخَوْفِ يَوْماً تَزِلُّ فِيْهِ الأَقْدَامُ، فَهَلْ مَعَكَ ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ مَنْ يُشِيْرُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ هَذَا؟

فَبَكَى بُكَاءً شَدِيْداً، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ.

فَقُلْتُ لَهُ: ارْفُقْ بِأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ.

فَقَالَ: يَا بْنَ أُمِّ الرَّبِيْعِ، تَقْتُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُك، وَأَرْفُقُ بِهِ أَنَا.

ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ.

قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ رحمه الله شُكِيَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:

يَا أَخِي! أُذَكِّرُكَ طُوْلَ سَهِرِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، مَعَ خُلُوْدِ الأَبَدِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يُنْصَرَفَ بِكَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَيَكُوْنَ آخِرَ العَهدِ، وَانقِطَاعَ الرَّجَاءِ. فَلَمَّا قَرَأَ الكِتَابَ، طَوَى البِلاَدَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ؟

قَالَ: خَلَعتَ قَلْبِي بِكِتَابِكَ، لاَ أَعُوْدُ إِلَى وِلاَيَةٍ حَتَّى أَلْقَى اللهَ.

فَبَكَى هَارُوْنُ بُكَاءً شَدِيْداً.

فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! إِنَّ العَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَمِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ الإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ تَكُوْنَ أَمِيْراً، فَافْعَلْ) [روى الإمامُ أحمد عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَصِيرُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ»].

فَبَكَى هَارُوْنُ، وَقَالَ: زِدْنِي.

قَالَ: يَا حَسَنَ الوَجْهِ، أَنْتَ الَّذِي يَسْأَلُكَ اللهُ عَنْ هَذَا الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقِيَ هَذَا الوَجْهَ مِنَ النَّارِ، فَافْعَلْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمسِيَ وَفِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِك، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَصْبَحَ لَهُم غَاشَّاً، لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ) [رواه البخاري بلفظ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»].

فَبَكَى هَارُوْنُ، وَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَينٌ؟

قَالَ: نَعَمْ، دَينٌ لِرَبِّي، لَمْ يُحَاسِبْنِي عَلَيْهِ، فَالوَيْلُ لِي إِنْ سَاءلَنِي، وَالوَيلُ لِي إِنْ نَاقَشَنِي، وَالوَيلُ لِي إِنْ لَمْ أُلْهَم حُجَّتِي.

قَالَ: إِنَّمَا أَعْنِي مِنْ دَينِ العِبَادِ.

قَالَ: إِنَّ رَبِّي لَمْ يَأْمُرْنِي بِهَذَا، أَمَرَنِي أَنْ أَصْدُقَ وَعْدَهُ، وَأُطِيْعَ أَمْرَهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُوْنَ}.

فَقَالَ: هَذِهِ أَلفُ دِيْنَارٍ، خُذْهَا، فَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ، وَتَقَوَّ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ.

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! أَنَا أَدُلُّكَ عَلَى طَرِيْقِ النَّجَاةِ، وَأَنْتَ تُكَافِئُنِي بِمِثلِ هَذَا، سَلَّمَكَ اللهُ، وَوَفَّقَكَ.

ثُمَّ صَمَتَ، فَلَمْ يُكَلِّمْنَا.

فَخَرَجْنَا، فَقَالَ هَارُوْنُ: أَبَا عَبَّاسٍ! إِذَا دَلَلْتَنِي فَدُلَّنِي عَلَى مِثْلِ هَذَا، هَذَا سَيِّدُ المُسْلِمِيْنَ.

فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: قَدْ تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ مِنَ الضِّيقِ، فَلَو قَبِلْتَ هَذَا المَالَ.

قَالَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُم، كَمَثَلِ قَوْمٍ لَهُم بَعِيْرٌ يَأْكلُوْنَ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَمَّا كَبِرَ نَحَرُوهُ، فَأَكَلُوا لَحْمَهُ.

فَلَمَّا سَمِعَ هَارُوْنُ هَذَا الكَلاَمَ، قَالَ: نَدْخُلُ، فَعَسَى أَنْ يَقْبَلَ المَالَ.

فَلَمَّا عَلِمَ الفُضَيْلُ، خَرَجَ، فَجَلَسَ فِي السَّطحِ عَلَى بَابِ الغُرفَةِ، فَجَاءَ هَارُوْنُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ فَلاَ يُجِيْبُهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا هَذَا! قَدْ آذَيْتَ الشَّيْخَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَانْصَرِفْ، فَانْصَرَفْنَا.

فيا أيُّهَا المسؤولُ مهما كنتَ ومَنْ كنتَ:

هل فكَّرتَ في النَّجَاةِ يومَ القيامَةِ، فكانت عندَكَ الشَّفَقَةُ والرَّحمَةُ على منِ استَرعاكَ اللهُ عليهِم؟

فإذا أردتَ النَّجاةَ من عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ فلا تكنْ ظالِماً لِرَعِيَّتِكَ.

وإذا أردتَ أن لا يُسَوِّدَ اللهُ وَجهَكَ يومَ القِيامَةِ فاحذَرِ الغِشَّ لِرَعيَّتِكَ.

ويا طالبَ العلمِ: كُن آمراً بالمعروفِ وناهيَاً عن المُنكَرِ على قَدْرِ استِطاعَتِكَ معَ جميعِ الخَلقِ، وخاصَّةً معَ المَسؤولين إن كنتَ تلتقي بهم، وإلا فاحفَظ لِسانَكَ، واعلم بأنَّ رِزقَ العِبادِ على ربِّ العِبادِ.

فنسألُك يا الله أن تُصلِحَ الرَّاعيَ والرَّعيَّةَ، وأن تَرُدَّنا إلى دينِكَ ردَّاً جميلاً، وأن تكشفَ الغُمَّةَ عن هذهِ الأمَّةِ، وأن تحقنَ دماءها، وتسترَ أعراضها، وتُؤمِّنَ روعاتِها يا أرحم الراحمين. آمين.

أخوكم أحمد النعسان

يرجوكم دعوة صالحة بظهر الغيب

**    **     **

تاريخ المقال:

يوم الثلاثاء 1 / رجب / 1433هـ ، الموافق: 22 / أيار / 2012م