311ـ كلمة الأسبوع: أقصى أماني العبد رضا الله تعالى عنه (2)

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

إنَّ أَقصَى أمنيةِ العبدِ الذي أسبغَ اللهُ تعالى عليه النِّعَمَ الظَّاهرةَ والباطنةَ، ثمَّ توَّجَ تلكَ النِّعَمِ بنعمةِ الإسلامِ والإيمانِ، أن يكونَ اللهُ تعالى راضياً عنهُ، لأنَّ اللهَ تعالى المنعِمَ إذا رَضِيَ عن العبدِ المنعَمِ عليه فإنَّهُ تباركَ وتعالى يجعلُ هذا العبدَ يتقلَّبُ بنِعَمٍ لا يعلمُ قَدْرَها إلا اللهُ تعالى، وذلكَ في عالمِ البرزخِ حيثُ يجعلُ ربُّنا عزَّ وجلَّ قبرَهُ روضةً من رياضِ الجنَّةِ، ويجعلُهُ في أرضِ المحشرِ تحتَ ظِلِّ عرشِهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ، ويجعلُهُ من الآمنينَ يومَ الفَزَعِ الأكبرِ، ثمَّ يُدخِلُهُ جنَّتَهُ مع الذينَ أنعمَ عليهم من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً.

علامةُ رِضاهُ عنكَ:

يا عباد الله، قد يسألُ أحدُنا: ما علامةُ رِضا اللهِ تعالى عن العبدِ؟

الجوابُ على ذلك:

من علامةِ رِضاهُ عنكَ أن تكونَ أنتَ راضِياً عنهُ في قضائِهِ وقَدَرِهِ وإن كانَ مُرَّاً، لأنَّهُ جاءَ في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي وابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ».

يا عباد الله، من عَرَفَ اللهَ تعالى حقَّ معرِفَتِهِ تأدَّبَ معَهُ، ومن أحبَّهُ تعلَّقَ به، ومن عَرَفَهُ وأحبَّهُ عَلِمَ أنَّهُ ما من قضاءِ يقضيهِ اللهُ تعالى على عبدِهِ وإن كانَ ظاهِرُهُ مُرَّاً إلا كانَ لمصلَحَةِ العبدِ المحبوبِ، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ واللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون﴾. وقال تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾. وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

إن رضيتَ عنهُ أرضاكَ:

يا عباد الله، حاشا لربِّنا عزَّ وجلَّ أن لا يُرضي عبدَهُ إذا رآهُ راضِياً عنهُ، وكيفَ لا يُرضيهِ ربُّنا عزَّ وجلَّ وهوَ القائلُ في كتابِهِ العظيمِ: ﴿هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَان﴾.

روى الترمذي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ، قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللهُ: اُبْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ». هذا في الآخرةِ مُحقَّقٌ.

وإذا شاءَ أن يُرضِيَهُ في الدُّنيا أرضاهُ، روى الإمام مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْراً مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟. ﴿واللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون﴾. بعد انقِضاءِ عِدَّتِها تزوَّجَها سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ لا شكَّ خيرٌ من أبي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

هذا الذي أبكى سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: الرِّضا عن الله تعالى من الإيمانِ، كما أنَّ السُّخطَ من كُفرانِ النِّعمةِ، والرِّضا يجعلُ العبدَ في نعيمٍ دائمٍ في الدُّنيا وفي الآخرةِ، والمؤمنُ الحقُّ هوَ من كانَ راضِياً عن الله تعالى في سائِرِ أحوالِهِ، ولو كانت صعبةً.

هذا سيِّدُنا عمران بن حُصين رَضِيَ اللهُ عَنهُ، الرَّجلُ التَّقيُّ النَّقيُّ، الذي عَشِقَ ربَّهُ عزَّ وجلَّ بقلبِهِ، وما كانَ وُدٌّ في قلبِهِ تُجاهَ العبدِ الكافرِ ولو كانَ من أصولِهِ، هذا الرَّجلُ العظيمُ هوَ الذي أبكى سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أخرج بن خُزَيْمةَ في حياة الصَّحابةِ عن عِمران بن حصين رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ قُريشاً جاءت إلى الحُصَين وكانت تعظِّمه فقالوا له: كلِّم لنا هذا الرجلَ فإنَّهُ يذكُرُ آلهتَنا ويسبُّهُم، فجاؤوا معه حتَّى جلسوا قريباً من بابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: «أوسِعُوا للشَّيخِ» وعمران وأصحابُهُ مُتوافِرُونَ، فقال حُصين: ما هذا الذي بَلَغَنَا عنكَ أنَّكَ تشتُمُ آلهتَنا وتذكُرُهُم، وقد كانَ أبوكَ حصينة وخيراً؟ فقال: «يا حُصَين، إنَّ أبي وأباكَ في النَّارِ؛ يا حصين، كم تعبد من إله؟» قال: سبعاً في الأرضِ وواحداً في السَّماءِ، قال: «فإذا أصابك الضُّرُّ مَن تدعو؟» قال: الذي في السَّماء، قال: «فيستجيبُ لكَ وحدَهُ وتُشرِكُهُم معهُ، أَرضيتَهُ في الشُّكرِ أم تخافُ أن يغلبَ عليكَ؟» قال: ولا واحدةً من هاتَين؛ قال: وعلمتُ أنِّي لم أكلِّم مثلَهُ، قال: «يا حُصَين، أسلِم تسلَم» قال: إنَّ لي قوماً وعشيرةً، فماذا أقولُ؟ قال: «قل: اللَّهمَّ، أستهديك لأرشدَ أمري، وزدني علماً ينفَعُني» فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلمَ، فقامَ إليه عِمْران فقبَّل رأسَهُ ويَدَيهِ ورِجلَيهِ، فلمَّا رأى ذلك النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بكى، وقال: «بَكَيتُ من صَنيعِ عِمرانَ، دَخَلَ حصينُ وهو كافرٌ فلم يَقُم إليه عِمرانُ ولم يلتفت ناحِيَتَهُ، فلمَّا أسلَمَ قضَى حقَّهُ فَدَخَلَني من ذلك الرِّقَّةُ».

وهذا سيِّدُنا عِمران بن حُصين رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ابتلاهُ اللهُ تعالى بمرضٍ في بطنِهِ، وبقي عليه ثلاثينَ عاماً، روى الطبراني في الكبير عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عِمْرَانَ بن حُصَيْن فِي وَجَعِهِ الشَّدِيدِ الَّذِي أَصَابَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنِّي لأَرْثِي لَكَ مِمَّا أَرَى، فَقَالَ: يَا أَخِي، لا تَفْعَلْ، فَوَاللهِ إِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَى الله.

خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:

أيُّها الإخوة الكرام: الحديثُ عن الرِّضا حديثٌ ذو شُجونٍ، إن كانَ حديثاً عن رِضا الله تعالى عن عبدِهِ، وإن كانَ حديثاً عن رِضا العبدِ عن ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وعلى كلِّ حالٍ ربُّنا عزَّ وجلَّ يُحِبُّ من عبدِهِ أن يكونَ راضِياً عنهُ في قضائِهِ وقَدَرِهِ، ليكونَ ربُّنا عزَّ وجلَّ راضِياً عنهُ في الدُّنيا والآخرةِ.

أسألُ اللهَ تعالى أن يُكرِمَنا بنِعمةِ الرِّضا، وأن يكونَ ربُّنا عزَّ وجلَّ راضياً عنَّا، وأن نكونَ راضينَ عن الله تعالى فيما قضى وقَدَّرَ.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 6/ربيع الأول/1434هـ، الموافق: 17/كانون الثاني/ 2013م