28ـ كلمات في مناسبات: السرقة كبيرة من الكبائر في ديننا (2)

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، اتَّفقَ العُلماءُ والفُقهاءُ على أنَّ السَّرِقَةَ كبيرةٌ منَ الكَبائِرِ، ومُوبِقَةٌ منَ المُوبِقاتِ، ولا فرقَ في كَونِهَا كبيرةً بينَ الموجِبَةِ للقَطعِ وعَدَمِ الموجبةِ لهُ لشُبهةٍ لا تقتَضي حِلَّ الأخذِ.

فأخذُ الأموالِ بطريقٍ غيرِ مشروعٍ حرامٌ، سواءٌ كانَ من الأموالِ العامَّةِ، أو منَ الأموالِ الخاصَّةِ، والمؤمنُ الصَّادقُ في إيمانِهِ والكامِلُ فيهِ، هوَ من صدَقَ في البيعةِ بينَهُ وبينَ سيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حيثُ سَمِعَ قولَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، فَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ شَيْئاً مِنْ هَذَا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَالْحَدُّ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فَحِسَابُهُ عَلَى رَبِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُنَّ شَيْئاً ضَمِنْتُ لَهُ الْجَنَّةَ». رواه الطبراني عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عنهُما. وسَمِعَ قولَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.

التَّحذيرُ من السَّرِقَةِ:

يا أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد جاءَ الإسلامُ مُقدِّساً حقَّ المُلكيَّةِ الفرديَّةِ، وجَعَلَها مُصانَةً، كما حرَّمَ الاعتداءَ عليها، كما حرَّمَ الاعتداءَ على النَّفسِ، وجَعَلَ الاعتداءَ عليها بأيِّ صورَةٍ من صورِ الاعتداءِ ـ من إتلافٍ واغتصابٍ وسَرِقَةٍ وغِشٍّ وخيانةٍ ـ جريمةً أخلاقيةً لا يتَّصِفُ بها ذو دينٍ صحيحٍ واستقامةٍ على الخيرِ.

وجَعَلَ السَّارِقَ عضواً أشلَّ في مجتمَعِهِ، لا يعولُ عليهِ، ولا يُطمأنُّ إليه، ولا يُركَنُ إليهِ، لأنَّهُ سخَّرَ حواسَّهُ وقِواهُ ـ التي سَيُسألُ عنها يومَ القِيامَةِ ـ في أمورٍ رديئةٍ دنيةٍ.

فالسَّارِقُ معرَّضٌ دِينَهُ وحياتَهُ وسُمعتَهُ للخَطَرِ، وبذلكَ يخسرُ دُنياهُ وآخرتَهُ، والسَّارِقُ انعكست فِطرتُهُ التي فطرهُ الله تعالى عليها، فجَعَلَ من نفسِهِ رجلاً يرى الحلالَ حراماً والحرامَ حلالاً، ولو خُيِّرَ بينَ الحلالِ والحرامِ لاختارَ الحرامَ، وانطبقَ عليهِ قولُ اللهِ تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون﴾.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد جاء سيِّدنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ليرعى الحقوقَ العامَّةَ والخاصَّةَ، لذلكَ حذَّرَ من السَّرِقةِ تحذيراً شديداً، من جملةِ ذلك:

أولاً: ما روى البخاري ومسلم عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». فهل تُرضي السَّارقَ هذهِ اللعنةُ التي تُصبُّ عليهِ من الله تعالى.

ثانياً: ما روى الطبراني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تُرْضِيَنَّ أَحَداً بِسَخَطِ اللهِ، وَلا تَحْمَدَنَّ أَحَداً عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَلا تَذُمَّنَ أَحَداً عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ رِزْقَ اللهِ لا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي السَّخَطِ».

ثالثاً: ما روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً﴾ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

رابعاً: ما روى البزارُ عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَلْيَنِهِ، فَقَالَ: «أَلْيَنُهُ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَشَدُّهُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ! الأَمَانَةُ، إِنَّهُ لا دِينَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا صَلاةَ لَهُ وَلا زَكَاةَ لَهُ، يَا أَخَا الْعَالِيَةِ! إِنَّهُ مَنْ أَصَابَ مَالا مِنْ حَرَامٍ، فَلَبِسَ جِلْبَاباً، يَعْنِي: قَمِيصاً، لَمْ تُقْبَلْ صَلاتُهُ حَتَّى يُنَحِّيَ ذَلِكَ الْجِلْبَابَ عَنْهُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَكْرَمُ وَأَجَلُّ، يَا أَخَا الْعَالِيَةِ! مِنْ أَنْ يَتَقَبَّلَ عَمَلَ رَجُلٍ أَوْ صَلاتَهُ، وَعَلَيْهِ جِلْبَابٌ مِنْ حَرَامٍ».

خامساً: ما روى الطبراني عَنْ أَسْمَاءَ بنتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ بَخِلَ وَاخْتَالَ، وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالَ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَهَا وَسَهَا، وَنَسِيَ الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ بَغَى وعَتَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلا، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدَّيْنِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يُذِلُّهُ الرُّعْبُ وَيُزِيلُهُ عَنِ الْحَقِّ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَهُ هَوًى يُضِلُّهُ».

خاتمةٌ نسألُ اللهَ تعالى حُسنها:

يا عِبادَ الله، كونوا مُطمئِنِّينَ على أرزاقِكُم، فكُلوها بطريقٍ مشروعٍ، واسمعوا حديثَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الرِّزقَ لَيَطلُبُ العبدَ كما يَطلُبُهُ أجَلُهُ» رواه ابن حبان عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي والله مَا آمُرُكُمْ إِلا بِمَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ، وَلا أَنْهَاكُمْ إِلا عَمَّا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَطْلُبُهُ رِزْقُهُ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ، فَإِنْ تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ فَاطْلُبُوهُ بِطَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلّ» رواه الطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

يا عِبادَ الله، أكلُ الأموالِ العامَّةِ والخاصَّةِ كبيرةٌ من الكبائِرِ، وإنَّ شِراءَ مالٍ مسروقٍ حرامٌ، والمشتري يكونُ شريكاً للسَّارِقِ، يقولُ الإمامُ احمد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إذا اشترى الرجلُ من رجلٍ شيئاً وهوَ يعلمُ أنَّهُ سَرِقةٌ فقد شارَكَهُ. اللَّهُمَّ أغنِنا بحلالِكَ عن حرامِكَ، وبطاعتِكَ عن معصِيَتِكَ، وبفضلِكَ عمن سواك. آمين.

أقول هذا القول وكل منا يستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ربيع الأول /1434هـ، الموافق: 7/شباط / 2013م