29ـ كلمات في مناسبات: أثر الذنب على المذنب

 

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرامُ: على قَدرِ عِلمِ المرْءِ يَعظُمُ خوفُهُ من اللهِ تعالى، وعلى قَدرِ مَعرِفَةِ اللهِ تعالى تكونُ الخَشيَةُ منهُ، وكُلَّما قلَّ العِلمُ والمَعرفَةُ كلَّما اجتَرَأ العبدُ على معصيَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.

وأعلمُ النَّاسِ وأعرَفُهُم باللهِ عزَّ وجلَّ بعدَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصِّدِّيقُ رضيَ الله عنهُ، روى الإمام أحمد في كتابِ الزُّهدِ، أنَّ سيِّدَنا أَبَا بَكرٍ الصِّدِّيـقَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أُدخِلَ مَزرَعَةَ أحَدِ الأنصارِ فَرَأى طائراً يَطِيرُ مِن شَجَرَةٍ إلى شَجَرةٍ، فَبَكَى وَجَلَسَ، فَقالَ لهُ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم: مَالَكَ يا خَليفَةَ رسولِ اللهِ؟ قال: طُوبـَى لهذا الطَّائِرِ! يَشرَبُ الَماءَ ويَأكُلُ مِنَ الثَّمَرِ، ثُمَّ يَمُوتُ ولا حِسَابَ ولا عَذَاب، يا لَيتَنِي كُنتُ طَـائِراً.

والعِلمُ النَّافِعُ والمعرفَةُ الحقيقيَّةُ هيَ التي تَدفعُ العبدَ للاتِّباعِ والاقتِداءِ بسيِّدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فالصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ كانَ عالِماً عارِفاً، وتجلَّى ذلكَ في التزامِهِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِماً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِيناً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضاً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».

هانتِ الذُّنوبُ على النَّاسِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد هانتِ الذُّنوبُ على الكثيرِ منَ النَّاسِ، حتَّى أصبَحَ البعضُ لا يَراهَا إلا كذُبابَةٍ، كما جاء في الحديثِ الشريفِ الذي رواه الإمام البخاري عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ.

وعندما هانتِ الذُّنوبُ على النَّاسِ حُبِسَتِ الأرزاقُ، ورُفِعَتِ البَرَكةُ، وقَسَتِ القُلوبُ، ونُزِعَتِ الرَّحمةُ، وجَفَّ الدَّمعُ في العُيونِ، ورُدَّ الدُّعاءُ، وتمزَّقتِ العلاقاتُ بينَ النَّاسِ، وتفكَّكَ المجتمعُ، واجتَرَأ النَّاسُ على الأمَّةِ، فَسُفِكَتِ الدِّماءُ، وخُرِّبَتِ البُيوتُ، وصارتِ الحياةُ شقاءً وضَنكاً، حتَّى صارَ العبدُ يمُرُّ بقبرِ أخيهِ فيقول: يا ليتني مكانَهُ، وما واقعُ الأمَّةِ اليومَ إلا بسببِ الجُرأةِ على المعاصي والكبائِرِ والمُوبِقاتِ جِهاراً نهاراً، والعِياذُ بالله تعالى.

لا نيأس مع وُجودِ مَحَبَّةِ الله تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: مع هذا الواقعِ المَريرِ الذي يمُرُّ به المسلمونَ فإنَّا لا نيأسُ إن شاءَ اللهُ تعالى ما دامَت مَحَبَّةُ الله تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في قُلوبِنا، كيفَ نيأسُ وسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ الأمَّةِ المُحِبَّةَ لِنَبِيِّها، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: لَا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».

ولا شكَّ بأنَّ المحِبَّ مُتَّبِعٌ، ولو سارَ سَيراً بطيئاً، ومن سارَ وَصَلَ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لا نيأس ولو بَعُدَتِ الشُّقَّةُ بيننا وبينَ أصحابِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ والتَّابِعينَ والسَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللهُ عنهُم أجمعين.

قالَ أحَدُ التَّابِعينَ لسُفيانَ الثَّوريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يا أبا عبد الله، ذَهَبَ القومُ ـ يعني: الصَّحابَةُ ـ على خُيولٍ جادَّةٍ ونحنُ على حَميرَ، قال: والله لَتَصِلَنَّ بالقومِ إذا سَلَكتَ ما سَلَكوا، ولو كُنَّا على الحَميرِ، مادامَ أنَّنا على الخطِّ وعلى الطَّريقِ التي هُم عليها فَسوفَ نَصِلُ.

ليسَ شيءٌ أحقرُ من الذَّنبِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: ليسَ هُناكَ أحقرُ من الذَّنبِ والمعاصي، وما رأيتُ شيئاً لا يُنسى مثلُ الذَّنبِ والمعصِيَةِ، فالمعصِيَةُ ولذَّتُها تذهبُ وتبقى مَرارَتُها، كما أنَّ الطَّاعةَ يذهبُ تَعَبُها وتبقى لذَّتُها.

الذَّنبُ يذهبُ ويبقى أثَرُهُ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: الذَّنب يبقى ويذهبُ أثَرُهُ، وخاصَّةً إن كانَ عن عَمدٍ، فمن آثارِ الذَّنبِ على المذنِبِ:

أولاً: يجعلُ حَياةَ المذنبِ شقاءً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾. فأثَرُهُ على المذنِبِ في الدُّنيا والآخِرَةِ إذا لم يَتُب للهِ تعالى.

ثانياً: يجعلُ رِزقَ المذنِبِ ضَيِّقاً، يقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنَّ للحَسَنَةِ نوراً في القلبِ، وزيناً في الوجهِ، وقُوَّةَ في البَدَنِ، وسَعَةً في الرِّزقِ، ومَحَبَّةً في قُلوبِ الخلقِ، وإنَّ للسَّيِّئَةِ ظُلمَةً في القَلبِ، وشيناً في الوجهِ، وَوَهَناً في البَدَنِ، ونَقصاً في الرِّزقِ، وبُغضَةً في قُلوبَ الخلق.

ثالثا: يجعلُ قلبَ المذنِبِ قاسِياً، قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾. وكانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يستعيذُ من قلبٍ قاسٍ لا يخشع، روى الإمام مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا».

وصاحِبُ القلبِ القاسي لا يُطلَبُ منهُ المعروفُ لأنَّهُ لا يَرحمُ، روى الحاكم عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يا علي، اُطلُبُوا المعروفَ من رُحَمَاءِ أمَّتي تعيشوا في أكنافِهِم، ولا تَطلُبُوهُ من القاسِيَةِ قُلوبُهُم، فإنَّ اللَّعنَةَ تنزِلُ عليهم».

ويقولُ مالكُ بنُ دينارَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ما ضُرِبَ عبدٌ بِعُقوبَةٍ أعظمَ من قَسوَةِ القلبِ، وما غَضِبَ اللهُ على قَومٍ إلا نَزَعَ الرَّحمَةَ من قُلوبِهِم.

رابعاً: يُنسيهِ العِلمَ النَّافِعَ، يقولُ ابنُ الجلاد: نَظَرتُ مَنظراً لا يحلُّ لي، فقالَ لي أحَدُ الصَّالِحِين: أتَنظُرُ إلى الحرامِ؟! والله لَتَجِدَنَّ غبه ولو بعدَ حينٍ، فَنَسيتُ القُرآنَ بعدَ أربعينَ سَنَةٍ.

ويقولُ الإمام الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

شَكَوتُ إلى وَكيعٍ سُوءَ حِفظِي   ***   فَأرشَدَني إلى تَركِ المعاصي

وأخــبَـرَنـي بـأنَّ الـعِلمَ نـورٌ   ***   ونـورُ الله لا يُهدَى لِعَاصي

خامساً: يجعَلُهُ مَبغوضاً عندَ الخلقِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَاناً فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَاناً فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ».

خاتمةٌ نسألُ اللهَ تعالى حُسُنَها:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أنصَحُ نفسي وإيَّاكُم بتقوى الله تعالى، والإعراضِ عن الذُّنوبِ والمعاصي، فَبِئستِ الذُّنوبُ والمعاصي التي تُتعِبُ العبدَ المذنِبَ العاصي في الدُّنيا قبلَ الآخِرَةِ إذا لم يَتُب إلى الله تعالى.

اللَّهُمَّ اشرَح صُدورَنا للإسلامِ، وحبِّب إلى قُلوبِنا الإيمانَ، وزَيِّنهُ في قُلوبِنا، وكَرِّه إلينا الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، واجعلنا من الرَّاشِدين. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ربيع الأول /1434هـ، الموافق: 7/شباط / 2013م