319ـ خطبة الجمعة: كفانا قول: هذا مؤيد, وهذا معارض

 

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

إنَّ العبدَ المجاهِرَ بالمعصِيَةِ عبدٌ آثِمٌ يُغضِبُ اللهَ تعالى، ويَحرِمُ نفسَهُ من عَفوِ الله تعالى ومن رحمَتِهِ،وعمَلُهُ مُحتَقَرٌ عندَ الصَّالِحينَ.

العبدُ المجاهِرُ بالمعصِيَةِ يُحِلُّ عِرضَهُ بحديثِ النَّاسِ عنهُ وعن جرائِمِهِ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَهُ إذا وَجَدَ النَّاسَ يَتَحَدَّثونَ عنهُ.

العبدُ المجاهِرُ بالمعصِيَةِ عبدٌ مَفضوحٌ بينَ الخلائِقِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ ـ والعياذُ بالله تعالى ـ.

العبدُ المجاهِرُ بالمعصِيَةِ يكونُ سَبَباً في نُزولِ البلاءِ على الأمَّةِ، عَرَفَ هذا من عَرَفَهُ، وجَهِلَهُ من جَهِلَهُ.

المجاهِرونَ لا يَتَمَتَّعونَ بِمُعافاةِ الله تعالى:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من طَبيعةِ الإنسانِ الخَطَأُ، وكُلُّ بني آدمَ خَطَّاءٌ، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الحاكم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».

فالمشكلةُ ليست في المعصِيَةِ أو في الخَطَأ، ولكنَّ المشكلةَ في الاجتِراءِ عليها جِهاراً نهاراً، المشكلةُ في الإصرارِ عليها، المشكلةُ في استِحلالِها، المشكلةُ في تبريرِها، ومن هذا المنطَلَقِ حَذَّرَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمَّةَ من المجاهَرَةِ بالمعصِيَةِ، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ».

فإذا كانَ مُرتَكِبُ المعصِيَةِ الذي باتَ وقد سَتَرَهُ اللهُ تعالى، أصبَحَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بما فَعَلَ، ويكشِفُ سِترَ الله تعالى عنهُ، مَحروماً من عَفوِ الله تعالى، فكيفَ بمن ارتَكَبَ المعصِيَةَ جِهاراً نهاراً بدونِ حَياءٍ من الله تعالى؟

هذا على العكسِ من العبدِ الذي اقتَرَفَ المعصِيَةَ سِرَّاً، وهوَ خائِفٌ من الله تعالى، وخائِفٌ من الفضيحَةِ في الدُّنيا قبلَ الآخِرَةِ، هذا العبدُ الذي ما هَتَكَ سِترَ الله تعالى عنهُ، هوَ المبَشَّرُ بِسَترِ الله تعالى عليه في الآخِرَةِ مع مَغفِرَةِ ذَنبِهِ، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم عن صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ».

لماذا حلَّ العذابُ والعِقابُ بالأمَّةِ؟

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد حَذَّرَنا سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من أن نَحِلَّ بأنفُسِنا عذابَ الله وعِقابَهُ، فاللهُ تعالى ما خَلَقَنا لِيُعَذِّبَنا، وما خَلَقَنا لِيَصُبَّ علينا البلاءَ صَبَّاً، فإذا ما رأتِ الأمَّةُ عذابَ الله وعِقابَهُ قد حلَّ بها، فلتنظُر في سَبَبِ هذا العَذابِ والعِقابِ، لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.

من جملةِ الأسبابِ التي تُحِلُّ عَذابَ الله وعِقابَهُ ظُهورُ الزِّنا والرِّبا في القومِ، روى الإمام الحاكم بسندٍ صحيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذابَ الله».

وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ» وقال: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ الله عَزَّ وَجَلَّ».

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إذا كُنَّا نَشُكُّ في كلامِ أحَدٍ من الخلقِ وهوَ يُحَدِّثُنا عن سَبَبِ البلاءِ الذي يُصَبُّ اليومَ على الأمَّةِ، حيثُ دُمِّرَتِ البلادُ والعِبادُ، فهل يَشُكُّ مُؤمِنٌ في كلامِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهو يحدِّث الأمةَ عَن سَبَبِ نُزُولِ العِقَابِ والعذابِ عليها؟

لماذا البأسُ شديدٌ بينَنا؟

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: البأسُ بينَنا صارَ شديداً، لماذا؟ لقد أصبَحَ القومُ يُعامِلُ بعضُهُم بعضاً مُعامَلَةَ العدُوِّ اللَّدودِ للعدُوِّ اللَّدودِ، لماذا؟ الجواب على ذلك من كلام الذي مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى،  مِن كلامِ الذي لا يَشُكُّ في كلامِهِ مَن كانَ في قلبِهِ ذَرَّةُ إيمانٍ.

وأنا أريدُ أن تسمعَ الأمَّةُ كُلُّها من حاكِمِها إلى مَحكومِها كلامَ نَبِيِّها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بالله أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ.

لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.

وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.

وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ الله وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ».

وأنا أسألُ الأمَّةَ كُلَّها الأسئِلَةَ التَّالِيَةَ:

أولاً: هل ظَهَرَتِ الفاحِشَةُ في القومِ أم لا؟ فإذا ظَهَرَتِ الفاحِشَةُ، فلماذا الاستِغرابُ من ظُهورِ الطَّاعونِ والأوجاعِ التي لم تَكُن في أسلافِ الأمَّةِ؟

ثانياً: هل أُنقِصَ المِكيالُ والميزانُ أم لا؟ سَلوا التُّجَّارَ هذا السُّؤالَ، فإذا أُنقِصَ المِكيالُ والميزانُ، فلماذا الاستِغرابُ من شِدَّةِ القَحطِ، وشِدَّةِ المؤونَةِ، وجَورِ الحُكَّامِ؟

ثالثاً: هل مُنِعَتِ الزَّكاةُ أم لا؟ كم هُمُ الذينَ يُؤدُّونَ زكاةَ أموالِهِم؟ فإذا مُنِعَتِ الزَّكاةُ، فلماذا الاستِغرابُ من مَنعِ قَطْرِ السَّماءِ؟

رابعاً: هل نَقَضَتِ الأمَّةُ العهدَ بينَها وبينَ الله تعالى ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أم لا؟ فإذا كانتِ العُهودُ قد نُقِضَت، فلماذا الاستِغرابُ من عدُوِّنا إذا سَلَبَ خَيراتِنا؟ أينَ أموالُ الأمَّةِ اليومَ؟

خامساً: هل حَكَمَ الأئِمَّةِ بكتابِ الله تعالى وبِسُنَّةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أم استَعاضُوا عن ذلكَ بِتَشريعاتٍ وَضعِيَّةٍ؟ أينَ حُدودُ الله تعالى في الأمَّةِ؟ فإذا لم يَحكُمِ الأئِمَّةُ بِكتابِ الله تعالى وبِسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فلماذا الاستِغرابُ من أن يكونَ البأسُ بينَ النَّاسِ شديداً؟

خاتمةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسن الخاتمة ـ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: ظُهورُ الفاحِشَةِ من أعظَمِ المُنكَراتِ، ونَقصُ المِكيالِ والميزانِ من أعظَمِ المُنكَراتِ، ومَنعُ الزَّكاةِ من أعظَمِ المُنكَراتِ، ونَقضُ العُهودِ من أعظَمِ المُنكَراتِ، وعَدَمُ الحُكمِ بِكتابِ الله تعالى وبِسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من أعظَمِ المُنكَراتِ، لا شكَّ في ذلكَ ولا رَيبَ، فإذا ظَهَرَت هذهِ الأمورُ في الأمَّةِ استَحَقَّتِ العِقابَ والعذابَ من الله تعالى.

يقولُ سيِّدُنا عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كَانَ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا عُمِلَ الْمُنْكَرُ جِهَاراً اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ كُلُّهُمْ. اهـ. رواه الإمام مالك في الموطَّأ عَنْ إسماعيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: كفانا خَلطٌ للأوراقِ، كفانا ابتِعادٌ عن الحقيقةِ، كفانا تَبرِئَةٌ لأنفُسِنا واتِهامٌ لِغَيرِنا، كفانا قولُ: هذا مُؤَيِّدٌ، وهذا مُعارِضٌ، هذا يَستَحِلُّ دَمَ هذا، وهذا يَستَحِلُّ دَمَ هذا.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: ما حلَّ العذابُ والعِقابُ بالأمَّةِ إلا بِسَبَبِ ظُهورِ الفاحِشَةِ والرِّبا، إلا بِسَبَبِ نَقصِ الكَيلِ والميزانِ، إلا بِسَبَبِ مَنعِ الزَّكاةِ، إلا بِسَبَبِ نَقضِ العُهودِ، إلا بِسَبَبِ عَدَمِ الحُكمِ والاحتِكامِ لِكِتابِ الله تعالى ولِسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. فهل من تائِبٍ إلى الله تعالى، من حاكمٍ ومَحكومٍ؟

فيا أيُّها الحاكمُ ويا أيُّها المحكومُ: اِعرِض أقوالَكَ وأفعالَكَ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، هل تَجِدُ فيهِما مُوافقةً لما تقولُ وتفعلُ؟

وكذلكَ أنتَ يا أيُّها المُؤَيِّدُ ويا أيُّها المُعارِضُ: اِعرِض أقوالَكَ وأفعالَكَ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، هل تَجِدُ فيهِما مُوافقةً لما تقولُ وتفعلُ؟

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 4/جمادى الأولى /1434هـ، الموافق:15/آذار / 2013م