339ـ خطبة الجمعة: لماذا تأخير عذاب الظالم إلى يوم القيامة؟

 

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، حُقوقُ الله تعالى مَبنِيَّةٌ على المُسامَحَةِ، أمَّا حُقوقُ العِبادِ فَمَبنِيَّةٌ على المُشاحَّةِ، والعَجيبُ أن تَرى العَبدَ المؤمنَ الذي يُحافِظُ على حُقوقِ الله تعالى، لا يُبالي بِحُقوقِ العِبادِ، ويَقَعُ في ظُلمِهِم، فَيَسفِكُ دِماءَهُمُ البِريئةَ، ويَسلِبُ أموالَهُمُ المُصانَةَ، ويُيَتِّمُ أبناءَهُم، ويُرَمِّلُ نِساءَهُم، ويُرَوِّعُ آمِنيهِم.

أيُّها الإخوة الكرام: في أيَّامِ الفِتَنِ وأيَّامِ الأزَماتِ قد يَختَلِفُ النَّاسُ في تَعيينِ الظَّالِمِ، وعِندَما يَختَلِفونَ ويَشتَدُّ الخِلافُ بينَهُم قد يَصِلونَ إلى دَرَجَةِ الظُّلمِ لِبَعضِهِمُ البَعضِ، فهذا يَلعَنُ هذا، وهذا يَشْتِمُ هذا، وهذا يَهجُرُ هذا، وهذا يُسيءُ لهذا.

وهذا لا يَليقُ بالإنسانِ المُسلِمِ، لأنَّهُ في أيَّامِ الفِتَنِ يَجِبُ على الإنسانِ المسلِمِ أن يَبرَأَ إلى الله تعالى من الظُّلمِ والظَّالِمينَ، وأن يَقولَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَبرَأُ إليكَ من هذا الظُّلمِ الذي وَقَعَ على الأبرِياءِ، ونَبرَأُ إليكَ من كُلِّ ظالِمٍ من أيِّ جِهَةٍ كانَ.

أيُّها الإخوة الكرام: عاقِبَةُ الظُّلمِ سَيِّئَةٌ، ومَرتَعُهُ وَخيمٌ، وجَزاءُ صاحِبِهِ إلى النَّارِ، وبالظُّلمِ يَكونُ خَرابُ الدِّيارِ، وما حَرَّمَ اللهُ تعالى شيئاً كالظُّلمِ، فقال تعالى في الحديثِ القُدسِيِّ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلَا تَظَالَمُوا» روا ه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وتَوَعَّدَ الظَّلَمَةَ بِقَولِهِ: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً﴾.

وقال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار﴾.

لماذا تأخيرُ عَذابِ الظَّالِمِ إلى يَومِ القِيامَةِ؟

أيُّها الإخوة الكرام: قد يَتساءَلُ البَعضُ لماذا تأخيرُ عَذابِ الظَّالِمِ إلى يَومِ القِيامَةِ؟ أليسَ فيهِ ضَرَرٌ على المَظلومِ؟

أولاً: عَقيدَتُنا بأنَّ اللهَ تعالى لا يُسألُ عمَّا يَفعَلُ وهُم يُسألونَ:

وعَقيدَتُنا أنَّهُ فَعَّالٌ لما يُريدُ، وعَقيدَتُنا أنَّهُ يَعلَمُ ولا نَعلَمُ، وعَقيدَتُنا أنَّهُ يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، وعَقيدَتُنا أنَّ أخْذَهُ أليمٌ شَديدٌ، وعَقيدَتُنا أنَّهُ لا يَعجَلُ، لأنَّ العَجَلَةَ شَأنُ من يَخافُ فَواتَ الفُرصَةِ، وربُّنا لا يَفوتُهُ شيءٌ، وعَقيدَتُنا أنَّهُ تعالى إذا قَضَى أمراً فلا رادَّ لِقَضائِهِ، وقد قَضَى ربُّنا عزَّ وجلَّ أجلاً للظَّالمينَ، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمَّىً﴾.

ثانياً: من أسماءِ الله تعالى الحَليمُ:

ورَحمَتُهُ سَبَقَت غَضَبَهُ، فمن حِلمِ الله تعالى أن لا يُعَجِّلَ العَذابَ للظَّالِمِ، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمَّىً فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون﴾.

فلو عَجَّلَ اللهُ تعالى العِقابَ لكلِّ ظالِمٍ لما كانَ هُناكَ حِلمٌ، ولكن جَعَلَ لهُم مَوعِداً، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً﴾.

ثالثاً: ربُّنا عزَّ وجلَّ يُريدُ أن يَرفَعَ دَرجاتِ المَظلومِ:

كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عن رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِن الله مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ».

رأى أحَدُ النَّاسِ مَظلوماً مَصلوباً في زَمَنِ الحَجَّاجِ، فقال: ربِّ إنَّ حِلمَكَ بالظَّالمينَ أضَرَ بالمَظلومينَ.

فَرَأى في مَنامِهِ كأنَّ القِيامَةَ قامَت، ورَأى المَظلومَ المَصلوبَ في أعلى الجَنَّةِ، ثمَّ سَمِعَ من يَقولُ له: إنَّ حِلمي بالظَّالمينَ أورَثَ المَظلومينَ أعلى عِلِّيِّينَ.

رابعاً: لِيَزدادَ الظَّالِمُ إثماً إلى إثمِهِ:

قال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين﴾.

فاللهُ تعالى يُملي لهُم لِيَزدادوا إثماً إلى إثمِهِم، ولِيَحمِلوا أوزاراً معَ أوزارِهِم.

خامساً: العَذابُ يَومَ القِيامَةِ دائِمٌ:

ربُّنا عزَّ وجلَّ عِندَما يَقولُ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار﴾. لأنَّ العَذابَ في الدُّنيا أمَدُهُ قَصيرٌ، وأمَّا العَذابُ في الآخِرَةِ فلهُ بِدايَةٌ وليسَ لهُ نِهايَةٌ، والعِياذُ بالله تعالى، فهوَ في الآخِرَةِ يَتَمَنَّى المَوتَ بِسَبَبِ شِدَّةِ العَذابِ فلا يَجِدُهُ.

قال تعالى: ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى﴾.

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُون * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُون﴾.

وقال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَاد * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّار﴾.

وقال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِين﴾.

وقال تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّين * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِين * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيَّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُون﴾.

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير﴾.

وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عِبادَ الله، الظَّالِمُ لِخَلقِ الله تعالى بأيِّ نَوعٍ من أنواعِ الظُّلمِ، والمُستَحِلُّ لما حَرَّمَ اللهُ تعالى عليهِ غَيرُ عاقِلٍ، فمن ظَلَمَ واستَحَلَّ القَتلَ والسَّلبَ والتَّرويعَ والتَّهديمَ ليسَ بعاقِلٍ، لأنَّ اللهَ تعالى يُملي له لِيَزدادَ إثماً إلى إثمِهِ، والعَذابُ من بينِ يَدَيهِ.

أيُّها الإخوة الكرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ يُؤَخِّرُ عُقوبَةَ الظَّالِمِ لِيَومِ القِيامَةِ لِيَرى من العَذابِ ما لا عَينٌ رَأت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ.

ربُّنا عزَّ وجلَّ يُؤَخِّرُ عُقوبَةَ الظَّالِمِ لِيَومِ القِيامَةِ لِيَرفَعَ دَرَجاتِ المَظلومِ في الجَنَّةِ، وذلكَ من خِلالِ كَظمِهِ الغَيظَ، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾.

أسألُ اللهَ تعالى أن لا يُحَمِّلَنا ما لا نُطيقُ، وأن يَجعَلَنا من الشَّاكِرينَ عِندَ الرَّخاءِ، ومن الصَّابِرينَ عِندَ البَلاءِ، ومن الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضاءِ. آمين.

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/رمضان /1434هـ، الموافق: 2/آب / 2013م