352ـ خطبة الجمعة: إذا أردت الفرج فاسترجع

 

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، إنَّ الشَّدائِدَ والابتِلاءاتِ والمِحَنَ والرَّزايا لا تَزالُ تَتَعاقَبُ على المُؤمِنِ على مَمَرِّ الأيَّامِ والسِّنينَ، ولكنْ فَرَجُ الله تعالى قَريبٌ، وخَيرُ شاهِدٍ على ذلكَ ما جاءَ في كِتابِ ربِّنا عزَّ وجلَّ.

هذا سيِّدُنا إبراهيمُ عَلَيهِ السَّلامُ بَعدَ أن أَحكَمَتِ الشِّدَّةُ عَلَيهِ قَبضَتَها إحكاماً، قال تعالى للنَّارِ: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيم﴾.

وهذا سيِّدُنا يَعقوبُ وسيِّدُنا يوسُفُ عَلَيهِما السَّلامُ تَجَلَّتْ في قِصَّتِهِما حَقائِقُ الفَرَجِ بَعدَ الضِّيقِ، قال تعالى على لِسانِ سيِّدِنا يوسف عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾.

وهذا سيِّدُنا أيُّوبُ عَلَيهِ السَّلامُ لمَّا اشتَدَّ بهِ الضُّرُّ جاءَهُ اللهُ تعالى بِكَشفِ هذا الضُّرِّ، قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين﴾.

إذا أرَدتَ الفَرَجَ فاستَرجِعْ:

يا عِبادَ الله، من رامَ الفَرَجَ من الله تعالى بَعدَ الشِّدَّةِ فَليَستَرجِعْ عِندَ الشَّدائِدِ والمَصائِبِ، وليَكُنْ بَعدَ ذلكَ على يَقينٍ بأنَّ الفَرَجَ قَريبٌ مهما طالَ زَمَنُهُ، قال تعالى في مُحكَمِ تَنزيلِهِ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾.

ومِصداقُ هذا الوَعدِ بأنَّ الفَرَجَ بَعدَ الاستِرجاعِ، ما أخرَجَهُ الإمام مسلم في صَحيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْراً مِنْهَا».

قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ.

فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتاً وَأَنَا غَيُورٌ.

فَقَالَ: «أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ».

لِمَ الجَزَعُ والقَلَقُ وعِندَكَ سِتَّةُ أخلاطٍ:

يا عِبادَ الله، أكثِروا من الاستِرجاعِ، من قَولِ: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ وكونوا على يَقينٍ بأنَّ الفَرَجَ بَعدَ الشِّدَّةِ.

يُحكَى أنَّ أنوشروان غَضِبَ على وَزيرِهِ بُزَرجُمُهرن فَحَبَسَهُ في بَيتٍ كالقَبرِ، وصَفَّدَهُ بالحَديدِ، وألبَسَهُ الخَشِنَ من الصُّوفِ، وأمَرَ ألا يُزادَ في كُلِّ يَومٍ على قُرصَينِ من الخُبزِ، وكَفٍّ من مِلحِ جُرشٍ، وشَيءٍ من ماءٍ، وأنْ تُنقَلَ إلَيهِ ألفاظُهُ، فأقامَ شَهراً لا تُسمَعُ لهُ لَفظَةٌ.

فقالَ أنوشروان: أدخِلوا إلَيهِ أصحابَهُ، ومُروهُم أن يَسأَلوهُ، ويُفاتِحوهُ الكلامَ، وعَرِّفوني بِهِ، فَدَخَلَ إلَيهِ جَماعَةٌ من المختَصِّينَ بِهِ.

فقالوا لهُ: أيُّها الحَكيمُ نَراكَ في هذا الضِّيقِ والحَديدِ والشِّدَّةِ التي رُفِعتَ إلَيها، ومعَ هذا، فإنَّ سَحنَةَ وَجهِكَ وَصِحَّةَ جِسمِكَ على حَالِهما لم تَتَغَيَّرْ، فما السَّبَبُ في ذلكَ؟!

فقال: إنِّي عَمِلتُ جَوارِشاتٍ ـ أي: أدوِيَةً ـ من سِتَّةِ أخلاطٍ، يُؤخَذُ مِنهُ كُلَّ يَومٍ شَيءٌ، فهوَ الذي أبقَاني على ما تَرَونَ.

فقالوا: صِفهُ لنا فَعَسى أن نُبتَلى بِمِثلِ بَلواكَ أو أحَدٌ من إخوانِنا فَنَستَعمِلَهُ أو نَصِفَهُ لهُ.

فقال: الخلطُ الأوَّلُ: الثِّقَةُ بالله عزَّ وجلَّ.

الثَّاني: عِلمي بأنَّ كُلَّ مَقدورٍ كَائِنٌ.

الثَّالِثُ: الصَّبرُ خَيرُ ما استَعمَلَهُ الممتَحَنُ المُتعَبُ.

الرَّابِعُ: إن لم نَصبِرْ أيَّ شَيءٍ نَعمَلُ، وما أُغني عن نَفسي بالجَزَعِ؟

الخامِسُ: قد يُمكِنُ أن يَكونَ في بَشَرٍ شَرٌّ مِمَّا أنا فيه.

السَّادِسُ: مِن سَاعَةٍ إلى سَاعَةِ فَرَجٍ.

دَعَواتٌ لِكُلِّ مَكروبٍ:

يا عِبادَ الله، يَقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾. ويَقولُ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

اُدعوا اللهَ تعالى لِكَشفِ الكَربِ العَظيمِ الذي أصابَ الأمَّةَ، وخَيرُ الدُّعاءِ ما كانَ من القُرآنِ العَظيمِ، ومن هَدْيِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أكثِروا من الدُّعاءِ، وقولوا من جُملَةِ الدُّعاءِ: ربِّ إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين. لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين.

وقولوا دُعاءَ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي كانَ يَقولُهُ عِندَ الكَربِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» رواه الشَّيخان عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.

وقولوا: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، كما جاءَ في سنن الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ». وقالَ الحاكم: هذا حَديثٌ صَحيحُ الإسنادِ.

وقولوا: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عبادَ الله، كونوا على يَقينٍ بأنَّ الفَرَجَ قَريبٌ مهما تَأخَّرَ، وكونوا على يَقينٍ بأنَّ اليُسرَ بَعدَ العُسرِ، روى الحاكم عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كانَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وبِحِيالِهِ جُحرٌ فقال: «لو جَاءَ العُسرُ فَدَخَلَ هذا الجُحرَ لجَاءَ اليُسرُ فَدَخَلَ عَلَيهِ فَأخرَجَهُ» فأنزَلَ اللهُ تعالى : ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾. وقال الحاكم: هذا حَديثٌ عَجيبٌ، غَيرَ أنَّ الشَّيخَينِ لم يَحتَجَّا بِعائِذِ بنِ شُريحٍ. ورَحِمَ اللهُ من قال:

وَلَرُبَّ نَـازِلَـةٍ يَـضيقُ بها الـفَتى   ***   ذَرعـاً وعِـندَ الله منها المَخرَجُ

ضَاقَتْ فلمَّا استَحكَمَت حَلَقاتُها   ***   فُرِجَتْ وكُنتُ أظُنُّها لا تُفرَجُ

الـــشِّـــدَّةُ أودَتْ بــالمُــهَـــجِ   ***   يـا ربِّ فَـعَـجِّلْ بالفَرَجِ. آمين.

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 13 /ذو الحجة/1434هـ، الموافق: 18/تشرين الأول / 2013م