346ـ خطبة الجمعة: الأمور بخواتيمها

 

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، عَقيدَتُنا أنَّ ربَّنا فَعَّالٌ لما يُريدُ، يَتَصَرَّفُ في خَلقِهِ كيفَ يَشاءُ، لا رادَّ لأمرِهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ وقَولِهِ وفِعلِهِ، لا يُسألُ عمَّا يَفعَلُ وهُم يُسألونَ.

عَقيدَتُنا أنَّ ما أصابَنا لم يَكُن لِيُخطِئَنا، وما أخطأنا لم يَكُن لِيُصيبَنا، وما من مُصيبَةٍ إلا بِقَضاءٍ مُبرَمٍ، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير﴾. عَقيدَتُنا أنَّ الغَيبَ بِيَدِ الله تعالى، ولا يَعلَمُ الغَيبَ إلا اللهُ تعالى.

يا عبادَ الله، الكَثيرُ من النَّاسِ في حالَةِ أرَقٍ وقَلَقٍ من الغَيبِ، فمنهُمُ الخائِفُ من المَوتِ، ومنهُمُ الخائِفُ من فِراقِ ما أحَبَّ من عاقِلٍ وغَيرِ عاقِلٍ، وكُلُّنا يَعلَمُ الحَديثَ الشَّريفَ الذي رواه الحاكم عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: جَاءَ جِبريلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا مُحَمَّدُ، عِشْ ما شَئتَ فإنَّكَ مَيِّتٌ، وأحبِبْ من أحبَبتَ فإنَّكَ مُفارِقُهُ.

لماذا الأرَقُ والقَلَقُ على ما سَنُفارِقُهُ أو سَيُفارِقُنا؟

يا عبادَ الله، لماذا الأرَقُ والقَلَقُ والخَوفُ على ما سَنُفارِقُهُ أو سَيُفارِقُنا؟

جُلُّ الأرَقِ والقَلَقِ والخَوفِ على الدُّنيا، وهل رَأَيتُم في هذهِ الأزمَةِ من يَأرَقُ ويَقلَقُ ويَخافُ من سُوءِ الخَاتِمَةِ؟

أهَمُّ وأعظَمُ وأخطَرُ عُمُرِ الإنسانِ آخِرُهُ، فأينَ من يَخافُ سُوءَ الخَاتِمَةِ؟ أينَ من يُفَكِّرُ ويَأرَقُ ويَقلَقُ من أجلِ حُسنِ الخَاتِمَةِ؟

أهَمُّ عُمُرِكَ وأعظَمُهُ وأخطَرُهُ عِندَ الخَاتِمَةِ، فإن خُتِمَ للعَبدِ على خَيرٍ وصَلاحٍ فهوَ في نَعيمٍ لا يَنفَدُ، وقُرَّةِ عَينٍ لا تَنقَطِعُ، ومُرافَقَةٍ لِنَبِيِّنا سيِّدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وإن خُتِمَ له على غَيرِ ذلكَ خَسِرَ الدُّنيا والآخِرَةَ، وانتَقَلَ إلى عَذابٍ مُقيمٍ لا يُتَصَوَّرُ.

فَكِّرْ في خَاتِمَتِكَ:

يا أيُّها الكَئيبُ الحَزينُ فَكِّرْ في خَاتِمَتِكَ، واسمَعْ ما روى الشيخان عن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».

فَكِّرْ في خَاتِمَةِ حَياتِكَ، هل خَاتِمَتُكَ إلى جَنَّةٍ أبداً، أم إلى نارٍ أبداً؟ يا ربِّ نَسألُكَ حُسنَ الخِتامِ، وأن تَجعَلَ خَيرَ أعمالِنا خَواتِيمَها، وخَيرَ أيَّامِنا يومَ نَلقاكَ.

روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ.

فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا».

فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَالَ: بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا».

يا عبادَ الله، المَوتُ آتينا، والمُقَدَّرُ كائِنٌ لا يَنمَحي، فلا نأرَقْ ولا نَقلَقْ على هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، ولنَجعَلْ هَمَّنا واهتِمامَنا وأرَقَنا وقَلَقَنا في حُسنِ الخَاتِمَةِ، ونحنُ نَتَذَكَّرُ قَولَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾.

ونحنُ نَتَذَكَّرُ قَولَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ يَصِفُ حالَ النَّاسِ جَميعاً فَيَقولُ: «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِناً وَيَحْيَا مُؤْمِناً وَيَمُوتُ كَافِراً» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ، فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، وَيُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنْيَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

حالُ سَلَفِ الأمَّةِ:

يا عبادَ الله، سَلَفُ الأمَّةِ أرِقوا وقَلِقوا خَوفاً من سُوءِ الخَاتِمَةِ، فهذا سُفيانُ الثَّورِيُّ يَبكي ويَقولُ: أخافُ أن أكونَ في أمِّ الكِتابِ شَقِيَّاً، أخافُ أن أُسلَبَ الإيمانَ عِندَ المَوتِ.

وهذا مالِكُ بنُ دينارَ كانَ يَقومُ طُولَ اللَّيلِ قابِضاً على لِحيَتِهِ، ويَقولُ: يا ربِّ، قد عَلِمتَ ساكِنَ الجَنَّةِ من ساكِنِ النَّارِ، ففي أيِّ الدَّارَينِ مَنزِلُ مالِكٍ؟

وهذا الإمامُ الشَّافِعِيُّ يَدخُلُ عَلَيهِ المُزَنِيُّ في مَرَضِهِ الذي تُوُفِّيَ فيهِ، فقال لهُ: كيفَ أصبَحتَ يا أبا عَبدِ الله؟

فقال الشَّافِعِيُّ: أصبَحتُ من الدُّنيا راحِلاً، وللإخوانِ مُفارِقاً، ولِسُوءِ عَمَلي مُلاقِياً، ولِكَأسِ المَنِيَّةِ شارِباً، وعلى الله وارِداً، ولا أدري أروحي تَصيرُ إلى الجَنَّةِ فَأُهَنِّيها، أم إلى النَّارِ فَأُعَزِّيها؟

ثمَّ أنشَأَ يَقولُ:

ولَمَا قَسَا قَلْبِي وضَاقَتْ مَـذَاهِبـي   ***   جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لعَفْوِك سُلَّمَا

تَـعَـاظَـمـنِي ذَنْـبي فَـلـمَّا قَـرَنْـتُهُ   ***   بعَفْوِكَ رَبِّي كَـانَ عَـفْوُكَ أَعْظَمَا

فَمَا زِلتَ ذا عَفْوٍ عن الذَّنبِ لم تَزَلْ ***   تَجُـودُ وتَـعْفُـو مِـنَّهً وتَـكَرُّمَـا

وهذا عَبدُ الله بنُ المُبارَكِ، العالِمُ العابِدُ الزَّاهِدُ المُجاهِدُ حينما جاءَتْهُ الوَفاةُ اشتَدَّت عَلَيهِ سَكَراتُ المَوتِ ثمَّ أفاقَ، ورَفَعَ الغِطاءَ عن وَجهِهِ وابتَسَمَ قائِلاً: لِمِثلِ هذا فَليَعمَلِ العامِلونَ، لا إلهَ إلا اللهُ؛ ثمَّ فاضَت رُوحُهُ.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عبادَ الله، كُلُّ ما كانَ لهُ بِدايةً فلهُ نِهايَةٌ، الأزمَةُ كانَت لها بِدايَةٌ، فكونوا على يَقينٍ بأنَّ لها نِهايَةً، الدُّنيا كانَت لها بِدايَةٌ، فكونوا على يَقينٍ بأنَّ لها نِهايَةً، وكُلُّ واحِدٍ منَّا كانَت لهُ بِدايَةٌ، وهوَ على يَقينٍ بأنَّ لهُ نِهايَةً.

ولكن هُناكَ فارِقٌ بَينَ نِهايَةٍ ونِهايَةٍ، واحِدٌ نِهايَتُهُ إلى جَنَّةٍ عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ، فيها من النَّعيمٍ ما لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ؛ وواحِدٌ نِهايَتُهُ إلى جَهَنَّمَ، فيها من العَذابِ ما لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ.

ما أكبَرَ وأشَدَّ خَسارَةَ من مَضَى من هذهِ الحَياةِ الدُّنيا بِسُوءِ الخَاتِمَةِ؟

ما أكبَرَ وأشَدَّ خَسارَةَ من مَضَى من هذهِ الحَياةِ الدُّنيا ويَدُهُ مَغموسَةٌ بِدِماءِ الأبرِياءِ، وبِحُقوقِ العِبادِ؟

ما أكبَرَ وأشَدَّ خَسارَةَ من مَضَى من هذهِ الحَياةِ الدُّنيا والنَّاسُ قد استَراحوا من شَرِّهِ؟

يا عبادَ الله، ربُّنا فَعَّالٌ لما يُريدُ، فلنَصبِرْ ولنَحتَسِبْ ولِنُفَكِّرْ في حُسنِ الخَاتِمَةِ، أسألُها ربِّي عزَّ وجلَّ لي ولكُم. ولنُفَكِّرْ أن نَخرُجُ من الدُّنيا وقد سَلِمَ المُسلِمونَ من ألسِنَتِنا وأيدينا، وأن يَكونَ مَوتُنا راحَةً لنا لا مِنَّا، ولنُكثِرْ من الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلوبِ والأبصارِ ثَبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ. آمين.

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 7 /ذو القعدة /1434هـ، الموافق: 13/أيلول / 2013م