349ـ خطبة الجمعة: عظِّموا عشر ذي الحجة

 

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، نحنُ في هذهِ الحَياةِ في دارِ مَمَرٍّ، وليسَت دارَ مَقَرٍّ، ومازِلنا في سَفَرٍ حتَّى يَكونَ إلى ربِّنا المُستَقَرُّ، وتَمُرُّ بنا مَواسِمُ عَظيمَةٌ تُضاعَفُ فيها الحَسَناتُ، وتُكَفَّرُ فيها السَّيِّئاتُ، وتُقالًُ فيها العَثَراتُ، وتُستَجابُ فيها الدَّعَواتُ.

من هذهِ المَواسِمِ شَهرُ ذي الحِجَّةِ، فقد جَمَعَ اللهُ تعالى فيهِ من الطَّاعاتِ والفَضائِلِ ما لا يَخفى على المؤمِنِ، ففي أوَّلِهِ العَشرُ المُبارَكَةُ التي أقسَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها في كِتابِهِ العَظيمِ بِقَولِهِ تعالى: ﴿وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر﴾. فقد أقسَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها تَعظيماً لِشَأنِها، وتَنبيهاً على فَضلِها.

أفضَلُ أيَّامِ الدُّنيا:

يا عِبادَ الله، أيَّامُ عَشرِ ذي الحِجَّةِ هيَ أفضَلُ أيَّامِ الدُّنيا، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه ابن أبي الدُّنيا عن جابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ما من أيَّامٍ أفضَلُ عِندَ الله من أيَّامِ عَشرِ ذِي الحِجَّةِ».

قالوا: يا نَبِيَّ الله، ولا مِثلُها في سَبيلِ الله؟

قال: «ولا مِثلُها في سَبيلِ الله، إلا مَن عَفَّرَ وَجهَهُ في التُّرابِ».

ولقد حَثَّ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فيها العِبادَ على العَمَلِ الصَّالِحِ، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ـ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ـ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟

قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله، إِلَّا رَجُلاً خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

ورَحِمَ اللهُ تعالى من قال:

لَيالي الـعَشرِ أوقَاتُ الإجَـابَه   ***   فَـبَادِرْ رَغـبَةً تَـلحَـقْ ثَوابَه

ألا لا وَقْــتٌ للــعُـمَّالِ فـيـهِ   ***   ثَوابُ الخَيرِ أقرَبُ للإصابَه

مِن أوقَاتِ اللَّيالي العَشرِ حَقَّاً   ***   فَشَمِّرْ واطْلُبَنْ فيهـا الإنَابَه

خَيرُ الأعمالِ الصَّالِحَةِ هيَ التَّوبَةُ:

يا عِبادَ الله، خَيرُ ما نَستَقبِلُ بهِ هذهِ الأيَّامُ التَّوبَةُ والإنابَةُ من جَميعِ الذُّنوبِ والآثامِ والمَظالِمِ، فإنَّها مِفتاحُ السَّعادَةِ، وعَلَيها تُشَيَّدُ الصَّالِحاتُ، ورُبَّ عَمَلٍ عَظيمٍ غَمَصَتْهُ ذُنوبٌ سالِفَةٌ لم يَتَطَهَّرْ صاحِبُها منها، فلم يُفلِحْ بِدَرْكِ بَرَكَتِها، ونَيلِ ثَوابِها، وكانَت عَلَيهِ وَبالاً وخُسراناً، ولم يُفْدِ منها غَيرَ النَّصَبِ والتَّعَبِ.

فهل يَسمَعُ أهلُ الذُّنوبِ والمُوبِقاتِ الذينَ تَلَطَّخَت أيادِيهِم بالدِّماءِ البَريئَةِ، وبالسَّرِقَةِ وبالاغتِصابِ وبأكلِ الحَرامِ وبِتَرويعِ الآمِنينَ نِداءَ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾؟

وهل سَمِعَ هؤلاءِ وأمثالُهُم من الظَّلَمَةِ نِداءَ الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾؟

وهل نَعلَمُ ويَعلَمُ هؤلاءِ الحديثَ الشَّريفَ إذ يَقولُ فيهِ الحَبيبُ الأعظَمُ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ» رواه الإمام البخاري عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وفي روايةٍ للإمام مسلم عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ».

السَّلَفُ الصَّالِحُ يُعَظِّمُ ثَلاثَةَ أعشارٍ:

يا عِبادَ الله، لقد كانَ سَلَفُنا الصَّالِحُ يُعَظِّمُ ثَلاثَةَ أعشارٍ، عَشرَ ذي الحِجَّةِ، والعَشرَ الأواخِرَ من شَهرِ رَمَضانَ، والعَشرَ الأوائِلَ من شَهرِ الله المُحَرَّمِ، فَعَظِّموا عَشرَ ذي الحِجَّةِ التي عَظَّمَها اللهُ تعالى إذ أقسَمَ بها بِقَولِهِ: ﴿وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر﴾.

عَظِّموا هذهِ العَشرَ بالأعمالِ الصَّالِحَةِ بَعدَ التَّوبَةِ الصَّادَِقَةِ، ومن هذهِ الأعمالِ الصِّيامُ والقِيامُ والصَّدَقَةُ، ومن أعظَمِ الأعمالِ الصَّالِحَةِ السَّعيُ للإصلاحِ بَينَ المؤمِنينَ، قال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.

يا عِبادَ الله، إذا لم نَلحَقْ بِرَكبِ الحُجَّاجِ والمُعتَمِرينَ في هذا العامِ فَعَزاؤُنا هوَ ما رَغَّبَنا به النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الأعمالِ الصَّالِحاتِ، لأنَّ القاعِدَ عن عُذرٍ وقَدَرٍ شَريكٌ للسَّائِرِ في الأجرِ، ولَرُبَّما سَبَقَ السَّائِرُ بِقَلبِهِ السَّائِرينَ بأبدانِهِم.

يا رَاحِلينَ إلى البَيتِ الحَرامِ لَقَدْ   ***   سِرْتُم جُسُوماً وسِرْنا نَـحنُ أرواحاً

لقد أقَـمـنـا عـلى عُـذْرٍ ألَمَّ بِـنـا   ***   ومَـنْ أقـامَ عـلى عُـذْرٍ فـقـد رَاحَـا

يا عِبادَ الله، أكثِروا من الصِّيامِ في هذهِ الأيَّامِ ـ ولكن كما قُلتُ بَعدَ التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ من حُقوقِ العِبادِ ـ فَصِيامُ يَومٍ منها يُعدَلُ بِصِيامِ سَنَةٍ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى الله أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يُعْدَلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ». وإن كانَ الحَديثُ ضَعيفاً، ولكن يُعمَلُ به لأنَّهُ داخِلٌ في الأعمالِ الصَّالِحَةِ.

وأحيُوا الوَقتَ من بَعدِ صَلاةِ الفَجرِ إلى وَقتِ صَلاةِ الضُّحى بالعِباداتِ وتِلاوَةِ القُرآنِ وذِكرِ الله، ثمَّ اركَعوا رَكَعاتِ الضُّحى حتَّى يُكتَبَ لَكُم أجرُ حَجَّةٍ وعُمرَةٍ تامَّةٍ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عبادَ الله، ألا إنَّ لِرَبِّكُم في أيَّامِ دَهرِكُم لَنَفَحاتٍ ألا فَتَعَرَّضوا لها، ومن هذهِ الأيَّامِ أيَّامُ عَشرِ ذي الحِجَّةِ، تَعالوا يا عِبادَ الله لِنَصطَلِحَ معَ الله تعالى، لِنَتوبَ إلى الله تعالى، لِنُصلِحَ ما أفسَدناهُ، لأنَّ ما حَلَّ بنا ما هوَ إلا من فَسادِ أعمالِنا، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾. ربُّنا كَريمٌ، ومن كَرَمِهِ نادانا بِقَولِهِ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾.

اللَّهُمَّ ارزُقْنا تَوبَةً صادِقَةً نَصوحاً. آمين.

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 28 /ذو القعدة /1434هـ، الموافق: 4 /تشرين الأول/ 2013م