94ـ مع الحبيب المصطفى: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَة»

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

94ـ «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَة»

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: واقِعُنا المُعاصِرُ هوَ من أمَرِّ ما مَرَّ على الأُمَّةِ عَبرَ تَاريخِها الطَّويلِ ـ واللهُ تعالى أعلَمُ ـ فأزمَتُها الحاضِرَةُ لَيسَت كَسالِفِ الأزَماتِ، ونَكبَتُها المُعاصِرَةُ تَكادُ أن تَكونَ غَيرَ مَسبوقَةٍ بِمِثلِها ـ واللهُ تعالى أعلَمُ ـ وما ذاكَ إلا لِخُطورَةِ وضَراوَةِ المُؤامَراتِ المُتَمَثِّلَةِ في تَداعي الأُمَمِ عَلَينا، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الصَّحيحِ الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود في سُنَنِهِ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا».

فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟

قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ».

فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْوَهْنُ؟

قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».

أيُّها الإخوة الكرام: وها قد تَحَقَّقَتِ النِّذَارَةُ، وهذهِ الأُمَمُ تَدَاعَت عَلَينا من كُلِّ جَانِبٍ، وصارَتِ الأُمَّةُ الإسلامِيَّةُ تَعيشُ حَياةَ الاستِجداءِ والزِّرايَةِ.

خَيرُ ما يُلقى في القُلوبِ يَقينٌ بالله تعالى:

أيُّها الإخوة الكرام: خَيرُ ما يُلقى في القُلوبِ في هذهِ الأزمَةِ، وفي هذهِ الظُّروفِ الصَّعبَةِ القاسِيَةِ هوَ يَقينٌ بالله تعالى يَرْسَخُ رُسوخَ الرَّاسِياتِ فَوقَ الأرضِ، وإيمانٌ صَادِقٌ بِكِفايَةِ الله تعالى لِعِبادِهِ يَدفَعُهُم إلى تَقديمِ مَرضاةِ الله عزَّ وجلَّ على مَرضاةِ النَّاسِ جَميعاً.

خَيرُ ما يُلقى في القُلوبِ هوَ إيمانٌ لا يَتَزَعزَعُ بأنَّهُ لا أحَدَ يَتَحَكَّمُ في هذا الكَونِ كُلِّهِ فَضْلاً عن بِلادِ الشَّامِ إلا الواحِدُ الأحَدُ، الفَردُ الصَّمَدُ، الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يَكُن لهُ كُفُواً أحَدٌ.

لا أحَدَ يَتَحَكَّمُ في رِقابِ المُؤمِنينَ إلا من قالَ في كِتابِهِ العَظيمِ: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾. وقال: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾. وقال: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: من أُلقِيَ في قَلبِهِ هذا اليَقينُ فإنَّهُ يَثبُتُ أمامَ الفِتَنِ مهما عَصَفَت واشتَدَّت وجاءَت من كُلِّ اتِّجاهٍ، فإذا ذَهَبَ النَّاسُ كُلَّ مَذهَبٍ في أيَّامِ الفِتَنِ فإنَّ صَاحِبَ اليَقينِ لا يَتَزَعزَعُ لأنَّهُ يأوي إلى رُكنٍ شَديدٍ من الإيمانِ والثِّقَةِ بالله تعالى، ولأنَّهُ مُتَأسٍّ بِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وبأصحابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم من المُهاجِرينَ والأنصارِ.

لَحظاتٌ رَهيبَةٌ وعَصيبَةٌ يَومَ الأحزابِ:

أيُّها الإخوة الكرام: الإنسانُ المُؤمِنُ لهُ صِلَةٌ بِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وبأصحابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم، حَيثُ يَجِدُ السُّلوانَ لِنَفسِهِ أيَّامَ الأزَماتِ والشَّدائِدِ والمِحَنِ.

أيُّها الإخوة الكرام: في غَزوَةِ الأحزابِ كانَت لَحَظاتٌ رَهيبَةٌ وعَصيبَةٌ وحَرِجَةٌ جِدَّاً على سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ الكِرامِ، من هذهِ اللَّحَظاتِ:

أولاً: الرُّعبُ الذي رَوَّعَ أهلَ المَدينَةِ وأفزَعَهُم بِسَبَبِ تَجَمُّعِ الأحزابِ عَلَيهِم من كُلِّ مَكانٍ، من العَرَبِ ـ قُرَيشٍ وغَطَفانَ وغَيرِهِم ـ ومن اليَهودِ ـ بَني قُرَيظَةَ وبَني النَّضيرِ ـ ومَكائِدِ المُنافِقينَ الذينَ كانوا بَينَ المُسلِمينَ.

ثانياً: الجُوعُ المُقعِدُ، وفِقدانُ الزَّادِ، حتَّى رَبَطَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على بَطنِهِ الحَجَرَ من شِدَّةِ الجُوعِ.

روى الإمام البخاري عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفَّيَّ مِن الشَّعِيرِ ـ يَعنِي في غَزوَة الخَندَق ـ، فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ ـ الإهالَةُ: دُهنٌ يُؤتَدَمُ به، من الزَّيتِ أو السَّمنِ أو الشَّحمِ ـ  سَنِخَةٍ ـ تَغَيَّرَ طَعمُها ولَونُها من قِدَمِهَاـ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ، وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ.

ثالثاً: في تِلكَ اللَّحَظاتِ الرَّهيبَةِ والعَصيبَةِ قاموا لِحَفرِ الخَندَقِ، معَ شِدَّةِ البَردِ، كما جاءَ في صَحيحِ الإمام البخاري عن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ:

اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ   ***   فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا   ***   عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

ويَقولُ البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: رَأَيْتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّي الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَهُوَ يَنْقُلُ مِن التُّرَابِ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا    ***   وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَـأَنْـزِلَـنْ سَـكِـيـنَةً عَلَـيْنَا   ***   وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

إِنَّ المُشرِكُونَ قَـدْ بَــغَـوْا عَـلَيْنَا   ***   وَإِنْ أَرَادُوا فِـتْـنَـةً أَبَيْنَا

قَالَ: ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا؛ رواه الإمام البخاري.

رابعاً: الخَوفُ على النِّساءِ والعَجَزَةِ والأطفالِ الذينَ هُم في المَدينَةِ المُنَوَّرَةِ، وخاصَّةً بَعدَ غَدْرِ اليَهودِ.

خامساً: قِلَّةُ المُسلِمينَ، وقِلَّةُ السِّلاحِ أمامَ تَجَمُّعِ الأحزابِ وقُوَّتِهِم وكَثرَةِ عَتادِهِم، هذهِ اللَّحَظاتُ الرَّهيبَةُ والعَصيبَةُ وَصَفَها رَبُّنا عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾. وَصْفٌ للمَوقِفِ.

أمَّا عن دَورِ المُنافِقينَ في هذهِ اللَّحَظاتِ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَاراً﴾.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: كَيفَ تَعامَلَ المُسلِمونَ معَ هذهِ اللَّحَظاتِ الحَرِجَةِ؟ كَيفَ كانَ حالُهُم في وَقتِ هذهِ الفِتنَةِ والشِّدَّةِ؟ ماذا فَعَلوا في هذهِ السَّاعاتِ العَصيبَةِ؟

الذي فَعَلوهُ، هوَ ما أخبَرنا اللهُ عزَّ وجلَّ عنهُ بِقَولِهِ: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ الصَّحبُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهُم من جُملَةِ النَّاسِ الذينَ يَفزَعونَ، ويَضعُفونَ، ويَضيقونَ بالشِّدَّةِ ذَرعاً، لكنَّهُم كانوا مُرتَبِطينَ بالعُروَةِ الوُثقى التي تَشُدُّهُم إلى الله عزَّ وجلَّ، وتَمنَعُهُم من السُّقوطِ، وتُجَدِّدُ فيهِمُ الأمَلَ، وتَحرُسُهُم من اليَأسِ والقُنوطِ، لأنَّهُم يَعتَمِدونَ على الله عزَّ وجلَّ الذي هوَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

أسألُ اللهَ تعالى أن يَرزُقَنا هذا الإيمانَ الذي لا يَتَزَعزَعُ، وأن لا يَجعَلَ من هذهِ الأزمَةِ التي نَمُرُّ بها سَبَباً للفِتنَةِ في دِينِنا. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 6/صفر/1435هـ، الموافق: 9/كانون الأول / 2013م