362ـ خطبة الجمعة: «السَّعِيدُ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ»

 

 362ـ خطبة الجمعة: «السَّعِيدُ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ»

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عِبادَ الله، لقد عِشنا بُرهَةً من الزَّمَنِ نَتَنَعَّمُ بألوانٍ من النِّعَمِ، والنَّاسُ مُعرِضونَ عن أقوالِ عُلَمائِهِم وَوُرَّاثِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ النَّاسَ مِن استِغلَالِ النِّعَمِ فِي مَعصِيَةِ اللهِ عزَّ وَجَل، وَيُحَرِّضُونَهُم عَلَى الشُّكرِ للهِ تَعالى إِذَا أَرَادُوا دَوَامَ النِّعَمِ وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾.

ثمَّ ما لَبِثَ النَّاسُ حتَّى وَقَعَت في الأُمَّةِ حَوادِثُ عِظامٌ، ودَخَلوا في هذهِ الأزمَةِ والفِتنَةِ التي جَعَلَتِ الحَليمَ حَيرانَ.

واشتَدَّتِ الأزمَةُ، وازدادَ الكَربُ، وعَظُمَ الخَطبُ، وطَمِعَ في الأُمَّةِ كُلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ، وشَمِتَتِ الأعداءُ بالأُمَّةِ، واختَلَطَتِ الآراءُ، وبَرَزَتِ الأهواءُ، وظَهَرَ الكَذِبُ والنِّفاقُ.

وصَارَتِ الأُمَّةُ في سَفينَةٍ ماتَ رُبَّانُها من عُلَمائِها الكِبارِ مِن وُرَّاثِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَتِ الأُمَّةُ جَهابِذَةَ العِلمِ والعُلَماءِ الرَّبَّانِيِّينَ، ثمَّ شَمَّرَ كُلُّ واحِدٍ من النَّاسِ عن ذِراعَيهِ وحَسَرَ عنها، ونادَى الأُمَّةَ: أنا أقودُكُم إلى بَرِّ الأمنِ والأمانِ، أنا أقودُكُم إلى الاستِقرارِ، أنا أقودُكُم إلى جادَّةِ الصَّوابِ؛ فَصَارَ من يَعلَمُ ومن لا يَعلَمُ، ومن يَفقَهُ ومن لا يَفقَهُ، ومن لهُ دِينٌ راسِخٌ ومن لهُ نِفاقٌ ظاهِرٌ فاضِحٌ، كُلُّهُم يَتَكَلَّمُ في مَصالِحِ الأمَّةِ، وكُلُّهُم يَقولُ: الطَّريقُ السَّليمَةُ والصَّحيحَةُ ها هُنا، ويَقولُ: إلَيَّ إلَيَّ يا عباد الله.

يا عباد الله، لقد صَدَقَ قَولُ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَيثُ قال: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَوَادِعاً، يُتَّهَمُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ النَّاسِ الرُّوَيْبِضَةُ».

قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟

قَالَ: «السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» رواه الطَّبَرانِيُّ في الكَبيرِ عَنْ عَوْفِ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

حَقيقَةُ الفِتَنِ:

يا عباد الله، لقد اختَلَطَتِ الأُمورُ على كَثيرٍ من النَّاسِ في هذهِ الأزمَةِ، حتَّى صَارَ الكَثيرُ منهُم لا يُمَيِّزونَ المُحِقَّ من المُبطِلِ، لا يُمَيِّزونَ بَينَ الضَّلالِ والهُدى، لا يُمَيِّزونَ بَينَ الحَلالِ والحَرامِ، لا يُمَيِّزونَ بَينَ الاتِّباعِ والابتِداعِ، والتَبَسَ الحَقُّ فيها بالباطِلِ، وهذهِ هيَ حَقيقَةُ الفِتَنِ، والسَّعيدُ من النَّاسِ من وَقاهُ اللهُ تعالى وحَفِظَهُ من الفِتَنِ، روى البَزَّارُ عَن عبدِ الرَّحمنِ بن جُبَيرٍ عن أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قال: جَاءَ المِقدَادُ بنَ الأَسوَدِ فِي حَاجَةٍ.

فَقُلنَا: اِجلِس حَتَّى نَطلُبَ لَكَ حَاجَتَكَ، فَجَلَسَ.

فَقَالَ: عَجِبْتُ لِقَومٍ مَرَرْتُ بِهِم يَتَمَنَّونَ الفِتَنَ يَزعُمُونَ لِيَبْلِيَنَّهُم اللهُ تعالى فِيهَا مَا أَبلَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَصحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عنهُم، وَلَقَد سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ ـ يُرَدِّدُهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ـ إِلَّا مَن ابتُلِيَ فَصَبَرَ».

وايمُ الله لا أَشهَدُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ حتَّى أَعلَمَ مَا يَمُوتُ عَليهِ بَعدَ حَدِيثٍ سَمِعتُهُ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَلبُ ابنِ آدَمَ أَشَدُّ انقِلَابَاً مِنَ القِدرِ إِذَا غُلِيَت».

المَخرَجُ من الفِتنَةِ:

يا عباد الله، إنَّ المَخرَجَ من الفِتنَةِ التي وَقَعَت، والتي جَعَلَتِ الحَليمَ حَيرانَ، لا يَدري القاتِلُ فيها لماذا يَقتُلُ، ولا يَدري المَقتولُ فيها لماذا قُتِلَ، المَخرَجُ منها هو التِزامُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، لأنَّ الإنسانَ يُؤتى بِسَبَبِ جَهلِهِ وقُصورِ عِلمِهِ، أو يُؤتى بِسَبَبِ غَلَبَةِ الهَوى على قَلبِهِ فَيَضِلُّ ذلكَ.

يا عباد الله، من هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هذا:

أولاً: ما رواه الإمام مُسلِم عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَن الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَن الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟

قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ».

قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟

قَالَ: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ».  

فَقُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟

قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، صِفْهُمْ لَنَا؟

قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا».  

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟

قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ».

فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟

قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».

ثانياً: ما رواه الطَبَراني عَنْ عُتْبَةَ بن غَزْوَانَ أَخِي بَنِي مَازِنِ بن صَعْصَعَةَ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الْمُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».

قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوَ مِنْهُمْ؟

قَالَ:«بَلْ مِنْكُمْ».

قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوَ مِنْهُمْ؟

قَالَ: «لا، بَلْ مِنْكُمْ». ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَوْ أَرْبَعاً.

ثالثاً: ما رواه أبو داود عن عَبْد الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ ـ اِخْتَلَطَتْ وَفَسَدَتْ ـ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ ـ قَلَّتْ ـ وَكَانُوا هَكَذَا ـ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ـ».

قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ؟

قَالَ: «الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ ـ أَمْسِكْ ـ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

 يَا عِبَادَ الله، اِختاروا ما اختَارَهُ لَكُم سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أيَّامَ الفِتَنِ التي تَكونُ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ، والتي يُصبِحُ فيها الرَّجُلُ مُؤمِناً ويُمسي كافِراً، ويُمسي مُؤمِناً ويُصبِحُ كافِراً، اِختَاروا ما اختَارَهُ لَكُم سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أيَّامَ الفِتَنِ التي تَجعَلُ الحَليمَ حَيرانَ، اِعتَزِلوا الفِرَقَ كُلَّها، وعَلَيكُم أنفُسَكُم، وعَلَيكُم بالصَّبرِ حتَّى تَلقَوا سَيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الحَوضِ، ولْيَسَعْكُم بَيتُكُم، واملِكوا عَلَيكُم ألسِنَتَكُم، ولا تَقولوا إلا خَيراً، وإلا فاصمُتوا.

اللَّهُمَّ رُدَّنا إلَيكَ رَدَّاً جَميلاً. آمين.

أقولُ هَذا القَولَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/صفر /1435هـ، الموافق: 27/كانون الأول / 2013م