363ـ خطبة الجمعة: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجاً»

 

 363ـ خطبة الجمعة: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجاً»

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله،  في خِضَمِّ ما نَعيشُهُ من أحداثٍ، وما يَمُرُّ بنا من فَواجِعَ، وما أُصيبَت به الأُمَّةُ من وَيلاتٍ، وما نُلاحِظُهُ من تَغَيُّرِ الأحوالِ، أفراحٌ تَتْلوها أتراحٌ، ونِعَمٌ تَعقِبُها نِقَمٌ، وأمنٌ يَعقِبُهُ خَوفٌ، وفِتَنٌ تَجعَلُ الحَليمَ حَيرانَ، يَبقى الإنسانُ المُؤمِنُ التَّقِيُّ الصَّالِحُ مُتَدَرِّعاً بالحِصنِ الحَصينِ والسِّياجِ الواقي، الذي أرشَدَنا إلَيه سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إذا ادلَهَمَّتِ الخُطوبُ، واشتَدَّتِ الكُروبُ، وكَثُرَ القَتلُ، وعَظُمَتِ الفِتَنُ، ألا وهوَ العِبادَةُ لله عزَّ وجلَّ.

حِصنُ الله الأعظَمُ:

يا عباد الله، إنَّ العِبادَةَ لله عزَّ وجلَّ هيَ حِصنُ الله الأعظَمُ، من دَخَلَهُ كانَ من الآمِنينَ المُطمَئِنِّينَ الرَّاجينَ فَضْلَ الله تعالى، ومن خَرَجَ منهُ أحاطَت به المَخاوِفُ من كُلِّ جانِبٍ.

من أطاعَ اللهَ عزَّ وجلَّ انقَلَبَتِ المَخاوِفُ في حَقِّهِ أماناً، ومن عَصاهُ انقَلَبَت مَآمِنُهُ مَخاوِفَ، فلا تَجِدُ العاصي إلا وكأنَّ قَلبَهُ بَينَ جَناحَيْ طَائِرٍ، إن حَرَّكَتِ الرِّيحُ البابَ قال: جاءَ الطَّلَبُ، وإن سَمِعَ وَقْعَ قَدَمٍ خافَ أن يَكونَ نذيراً بالعَطَبِ، ويَنطَبِقُ عَلَيهِ قَولُهُ تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾.

روى الإمام مسلم عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». وفي رِوايَةِ الإمام أحمد عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَيَّ».

«إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجاً»:

يا عباد الله، عِندَما حَدَّثَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ عن الهَرجِ، وأنَّ العِبادَةَ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إلَيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَيَّنَ للأُمَّةِ أنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرجاً.

روى ابنُ ماجه عن أَبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجاً».

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا الْهَرْجُ؟

قَالَ: «الْقَتْلُ».

فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِن الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ».

فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ الله، وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا، تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِن النَّاسِ لَا عُقُولَ لَهُمْ». هَبَاءٌ مِن النَّاسِ: حُثالَةٌ من النَّاسِ.

من العِبادَةِ الصَّلاةُ:

يا عباد الله، أكثَرُ النَّاسِ يَغفُلونَ عن العِبادَةِ أيَّامَ الهَرجِ، ويَشتَغِلونَ بالقِيلِ والقالِ، وهذا خِلافُ ما أرشَدَنا إلَيهِ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

عَلَينا يا عباد الله، بِكَثرَةِ العِبادَةِ في هذهِ الأيَّامِ، وخاصَّةً بعِبادَةِ الصَّلاةِ، روى الإمام البخاري عن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعاً يَقُولُ: «سُبْحَانَ الله! مَاذَا أَنْزَلَ اللهُ مِن الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِن الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ ـ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ  لِكَيْ يُصَلِّينَ ـ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ».

هل نَحنُ من الذينَ يَستَيقِظونَ في اللَّيلِ للصَّلاةِ؟ وهل نَحنُ من الذينَ يُوقِظونَ أهلَهُم للصَّلاةِ في اللَّيلِ، وخاصَّةً في أيَّامِ الهَرجِ؟

يا عباد الله، فِرُّوا من الفِتَنِ إلى عِبادَةِ الله تعالى، وخاصَّةً إلى عِبادَةِ الصَّلاةِ، لأنَّ الصَّلاةَ تَدفَعُ الفِتَنَ، وبَعدَ الصَّلاةِ استَعيذوا بالله تعالى من الفِتَنِ، كما أرشَدَنا إلى ذلكَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بالله مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

من العِبادَةِ الصَّبْرُ:

يا عباد الله، من العِبادَةِ وخاصَّةً في أيَّامِ الهَرجِ والفِتَنِ الصَّبْرُ، وذلكَ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهاً» رواه أبو داود عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللهُ عنهُ. يَعني: ما أحسَنَ وما أطيَبَ من ابتُلِيَ بالفِتَنِ فَصَبَرَ على البَلاءِ.

واسمَعوا إلى هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أيَّامَ المَوتِ الشَّديدِ حَيثُ يَكثُرُ القَتلُ حتَّى لا يَجِدَ النَّاسُ قَبْراً لِدَفنِ مَوتاهُم، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِمَاراً وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ وَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ كَيْفَ تَصْنَعُ؟».

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «تَعَفَّفْ».

ثمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ شَدِيدٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْعَبْدِ ـ يَعْنِي الْقَبْرَ ـ كَيْفَ تَصْنَعُ؟».

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «اصْبِرْ».

ثمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ـ يَعْنِي حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ ـ اسمُ مَوضَعٍ بالمدينَةِ ـ مِن الدِّمَاءِ ـ كَيْفَ تَصْنَعُ؟

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ».

قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أُتْرَكْ.

قَالَ: «فَأْتِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ، فَكُنْ فِيهِمْ».

قَالَ: فَآخُذُ سِلَاحِي؟

قَالَ: إِذَنْ تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يا عباد الله، المَفَرُّ من الفِتَنِ إلى العِبادَةِ، وهذا من هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فهل سَمِعنا وامتَثَلْنا أمْرَ الحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

هل حَرَّضْنا الأُمَّةَ على الصَّلاةِ والصَّبْرِ؟ فإن فَعَلنا ذلكَ فأبشِروا بِتَغييرِ الأحوالِ من الشِّدَّةِ إلى الرَّخاءِ، ومن الخَوفِ إلى الأمنِ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القائِلُ: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقنا لما يُرضيكَ عنَّا. آمين.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ربيع الأول/1435هـ، الموافق: 3/كانون الثاني/ 2014م