الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ حَجَرٍ في المَطَالِبِ العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِي مِنْ أَصْلَابِ الْكِرَامِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ».
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَاهُ مَالِكَ بْنَ سِنَانٍ لَمَّا أُصِيبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ مَصَّ دَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَازْدَرَدَهُ (أَيْ: ابْتَلَعَهُ) فَقِيلَ لَهُ: أَتَشْرَبُ الدَّمَ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، أَشْرَبُ دَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَلَطَ دَمِي بِدَمِهِ لَا تَمَسُّهُ النَّارُ».
إِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ سَيِّدِنَا مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ رُبِّيَ فِي بَطْنِهَا الشَّرِيفِ، وَكَانَ أَصْلُ خِلْقَتِهِ مِنْهَا؟
سُئِلَ القَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ المَالِكِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إِنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في النَّارِ.
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَلْعُونٌ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَذَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَالَ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ في النَّارِ. اهـ.
وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ:
اللهُ شَاءَكِ أَنْ تَــــكُونِي فِينَـــــــا *** أُمًّا لِخَيْرِ المُرْسَلِينَ حَنُونَـــــا
فَــاخْتَارَكِ المَوْلَى لِـحَـمْــلِ أَمَانَـةٍ *** فَخُلِقْتِ آمِنَةً وَضـَعْتِ أَمِينَـا
للهِ أَحْـــشَـاءٌ تَوَسَّــــدَ أَحْمَــــــدٌ *** جَنَبَاتِهَا فَحَنَتْ عَلَيْهِ جَنِينَـــا
يَا مَنْ كَسَوْتِ الدَّهْرَ أَشْرَفَ حُــلَّةٍ *** وَجَعَلْتِ دُرَّةَ تَاجِهِ الإِثْنِينَـــا
جَهِلُوا مَقَامَكِ حِينَ قَالُوا قَــوْلَــةً *** وَلَقَدْ أَسَاؤُوا فِي النَّبِيِّ ظُنُونَـا
تَرْجُوهُ أُمَّتُهُ وَتَــيْأَسُ أُمُّـــــــــهُ *** حَاشَاهُ وَهْوَ بِبِرِّهَا يُوصِينَـــا
وَلَسَوْفَ يُعْطِيهِ الإِلَهُ فَــهَلْ تَـرَى *** يَرْضَى لِآمَنَةٍ تَذُوقُ الهُونَـــا؟
اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَـجْعَلُ دِيـنَــــــهُ *** وَلَقَدْ رَضِينَا دِينَ ابْنِكِ دِينَــا
إِذْ كَانَ أَشْرَفُ بُقْعَةٍ تِــلْكَ الَّتِـــي *** أَضْحَى بِهَا خَيْرُ الأَنَامِ دَفِينَــا
فَلِكَوْنِهَا ضَمَّتْ جَنَابَ المُصْطَفَـى *** لَكِنْ بِبَطْنِكِ كُوِّنَ التَّكْوِينَـــا
يَا أُمَّ خَـــــيْرِ المُرْسَلِينَ وَجَــــدَّةَ *** الزَّهْرَاءِ أَمْطَرَكِ الحَيَاءُ هَتُونَـا
سَـــعِدَتْ بِكِ الأَبْوَاءُ حِينَ نَزَلْتِهَا *** وَتَعَطَّرَتْ عِطْرًا وَطَابَتْ طِينَا
فَتَحَنَّـنِي وَتَـــعَطَّـفِـي وَلَــــدَى *** النَّبِيِّ تَشَفَّعِي فَهُوَ المُشَفَّعُ فِينَـا
وَتَـــلَـــطَّـفِي وَتَـــذَكَّـرِي ذُرِّيَّةَ *** الزَّهْرَاءِ فَالجَدَّاتُ أَكْثَرُ لِينَـــا
فَلَنَا السَّعَادَةُ إِنْ ذُكِــــرْنَا عِـــنْدَهُ *** أَوْ إِنْ سَمِعْنَا صَوْتَهُ يَدْعُونَــا
لَــــبَّيْكَ يَا خَـــيْرَ الأَنَامِ وَسَــيِّدَ *** الرُّسْلِ الكِرَامِ وَسِرَّنَا المَكْنُونَا
يَا مَنْ لَهُ الخُلُقُ الــعَــظِيمُ سَـجِيَّةٌ *** وَالعَفْوُ عِنْدَكَ نَالَهُ الرَّاجُونَــا
عَـــفْوًا رَسُولَ اللهِ إِنَّ حَـــيَاءَنَــا *** مَنَعَ الكَلَامَ وَهَيْبَةً تَعْرُونَــــا
رُحْـمَـاكَ إِنَّا قَــــدْ تَـخَلَّـفْـنَا بِلَا *** عُذْرٍ تَرَكْنَا الفَرْضَ وَالمَسْنُونَا
فَـــاسْتَغْـفِـرِ المَوْلَى لَنَا يَــا سَيِّدِي *** وَاطْوِ المَسَافَةَ بَيْنَنَا وَالهَوْنَـــــا
أَعْـــطَاكَ رَبِّي رُتْـبَـةً لَمْ يُــعْـطِـهَا *** مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا هَارُونَا
فَــانْظُرْ بِعَيْنِ العَطْفِ وَارْحَمْ ذُلَّنَا *** وَاقْبَلْ شَفَاعَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فِينَا
يَــــا رَبِّ صَلِّ عَلَى الـــنَّبِيِّ وَآلِهِ *** مَا قَامَ حَادٍ أَوْ تَلَا تَالِينَــــــا
وَبِـــحَقِّهِ يَا رَبِّ حَقِّقْ سُــؤْلَنَا *** وَاغْفِرْ لَنَا وَلِمَنْ يَقُلْ آمِينَـــــا
وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ:
حَبَا اللهُ النَّبِيَّ مَزِيدَ فَضْلٍ *** عَلَى فَضْلٍ وَكَانَ بِهِ رَؤُوفَـا
فَــأَحْيَا أُمَّهُ وَكَذَا أَبَـــاهُ *** لِإِيمَانٍ بِــهِ فَضْلًا لَطِيفَـــا
فَسَلِّمْ فَالْقَدِيمُ بِذَا قَـدِيرٌ *** وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بِهِ ضَعِيفَا
وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ:
لِـوَالِـدَيْ طَـهَ مَـقَـامٌ عَلَا *** فِي جَـنَّـةِ الخُـلْـدِ وَدَارِ الـثَّـــوَابِ
وَقَطْرَةٌ مِنْ فَـضَـلَاتٍ لَــهُ *** فِي الجَوْفِ تُنْجِي مِنْ أَلِيمِ العِـقَابِ
فَكَيْفَ أَرْحَامٌ لَهُ قَدْ غَدَتْ *** حَامِلَةً تُصْلَى بِنَارِ الـــــــــعَذَابِ؟
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
قُلْ لِهَذَا العَالِمِ مَاذَا تُرِيدُ مِنْ كَلَامِكَ هَذَا؟
وَأَقَلُّ مَا يُقَالُ فِي حَقِّهَا وَفِي حَقِّ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الفَتْرَةِ، وَهُمَا نَاجِيَانِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. هذا، والله تعالى أعلم.