التفسير الصحيح لحادثة تأبير النخل الثابتة في صحيح مسلم

13330 - التفسير الصحيح لحادثة تأبير النخل الثابتة في صحيح مسلم

 السؤال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ما هو التفسير الصحيح لحادثة تأبير النخل الثابتة في صحيح مسلم
 الاجابة :
رقم الفتوى : 13330
 0000-00-00

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:  

170ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (7)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَمَّا قَضِيَّةُ تَأْبِيرِ النَّخْلَ: فَقَدْ وَرَدَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ».

قَالَ: فَخَرَجَ شِيصَاً.

فَمَرَّ بِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟».

قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا!.

قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».

فَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ فَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ يُخْطِئُ في أُمُورِ الدُّنْيَا، وَرَاحَ يَقُولُ: أَخْطَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في كَذَا وَأَخْطَأَ في كَذَا!!.

وَلَكِنَّ الحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَقْوَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالَهُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضَاً، وَيُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضَاً، وَأَنَّ اللهَ تعالى حَفِظَهُ عَنِ الخَطَأِ كَمَا حَفِظَهُ مِنَ الخَطِيئَةِ، فَنَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ:

أولاً: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَشَأَ في تِلْكَ الأَرَاضِي المُبَارَكَةِ التي هِيَ مَنَابِتُ النَّخِيلِ، وَتَرَبَّى بَيْنَ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ فُنُونَ زَرْعِ النَّخِيلِ، وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ عِنَايَاتٍ وَلُقَاحَاتٍ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ في حَقِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ تِلْكَ العَادَةُ المُطَّرِدَةُ في إِنْتَاجِ النَّخِيلِ، وَلُزُومُ التَّلْقِيحِ لَهُ بِمُوجَبِ الأُصُولِ الزِّرَاعِيَّةِ؟

في حِينِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَفَايَا مَعْلُومَاتِ الزِّرَاعَةِ لِشَجَرِ النَّخِيلِ، وَلَا مِنْ غَوَامِضِهَا؛ إِذَاً لَا بُدَّ وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَمْرَاً لَا يَسْتَطِيعُونَ نَيْلَهُ بِأَنْفُسِهِمْ.

ثانياً: إِنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي نَالَ مِنَ العُلُومِ مَا نَالَ، وَأَفَاضَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ مَا أَفَاضَ، حَتَّى أَنَّهُ ذَكَرَ للصَّحَابَةِ وَبَحَثَ لَهُمْ في كُلِّ شَيْءٍ.

كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تَرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا وَهُوَ ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمَاً.

فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّخِيلَ يَحْتَاجُ إلى تَلْقِيحٍ بِمـُقْتَضَى العَادَةِ في عِلْمِ الزِّرَاعَةِ؟ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَمْرَاً آخَرَ.

ثالثاً: إِنَّ الذي يَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ الأَمْرِ الآخَرِ الذي أَرَادَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّظَرُ في أَشْبَاهِ هَذِهِ الوَاقِعَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ».

فَفِي المُسْنَدِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أَبُو رَافِعٍ القِبْطِيُّ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَسْلَمَ وَمَاتَ في أَوَّلِ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ. اهـ. مِنْ شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ)

قَالَ: صُنِعَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَأُتِيَ بِهَا.

فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا رَافِعٍ، نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ (الذِّرَاعُ: هُوَ اليَدُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الإِنْسَانِ مِنْ طَرَفِ المِرْفَقِ إلى طَرَفِ الأُصْبُعِ الوُسْطُى، يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ: مَا فَوْقَ الكِرَاعِ، وَهُوَ المُرَادُ هُنَا. اهـ. مِنَ الزَّرْقَانِيِّ) فَنَاوَلْتُهُ

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا رَافِعٍ، نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ». فَنَاوَلْتُهُ.

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا رَافِعٍ، نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ لِلشَّاةِ إِلَّا ذِرَاعَانِ؟!

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ سَكَتَّ لَنَاوَلْتَنِي مِنْهَا ذِرَاعَاً مَا دَعَوْتُ بِهِ».

قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ.

قَالَ في مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ، وَقَالَ فِي بَعْضِهَا: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصْلِيَ لَهُ شَاةً فَصَلَيْتُهَا.

وَرَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ بِاخْتِصَارٍ، وَأَحَدُ إِسْنَادَيْ أَحْمَدَ حَسَنٌ. اهـ.

وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ (قَالَ في شَرْحِ المَوَاهِبِ: أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ الحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِيمَنْ لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، هَكَذَا في نُسَخِ المُصَنَّفِ: أَبِي عُبَيْدٍ، بِلَا هَاءٍ عَلَى المَعْرُوفِ، وَلَعَلَّهُ الوَاقِعُ عِنْدَ الدَّارَمِيِّ وَإِلَّا فالذي في التِّرْمِذِيِّ: أَبِي عُبَيْدَةَ بِهَاءٍ، قَالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ: هَكَذَا في أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنْ كِتَابِ الشَّمَائِلِ: أَبِي عُبَيْدَةَ بِزِيَادَةِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ المزي في الأَطْرَافِ. اهـ).

أَنَّهُ طَبَخَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قِدْرَاً فِيهَا لَحْمٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا». فَنَاوَلْتُهُ.

فَقَالَ: «نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا». فَنَاوَلْتُهُ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا».

فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ؟

فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ سَكَتَّ لَأَعْطَيْتَ ذِرَاعَاً مَا دَعَوْتُ بِهِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَهَذِهِ القِصَّةُ غَيْرُ التي تَقَدَّمَتْ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 25/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 20/ كانون الثاني / 2020م

 

172ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (9)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: أَخْطَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في قِصَّةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْطَأَ في قَوْلِهِ لِأَبِي عُبَيْدٍ: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» في المَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الخَطَأِ، بَلْ مِنْ بَابِ الصَّوَابِ، وَإِرَادَةِ الإِكْرَامِ وَالإِتْحَافِ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ، بِأَمْرٍ فِيهِ اليُمْنُ وَالبَرَكَةُ عَلَى وَجْهٍ خَارِقٍ للعَادَةِ، وَلَكِنْ تَخَلَّفَ ذَلِكَ لِوُجُودِ المَانِعِ وَالعَارِضِ.

وَنَظِيرُ هَذَا: انْقِطَاعُ مَدَدِ الإِكْرَامِ وَالبَرَكَةِ مِنْ ظَرْفِ السَّمْنِ، الذي بَارَكَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَصَرَتْهُ أُمُّ مَالِكٍ، كَمَا جَاءَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّةَ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنَاً، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ ـ وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَسْأَلُونَ السَّمْنَ ـ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ (أَيْ: تَقْصِدُ) إِلَى الظَّرْفِ الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنَاً، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ (أَيْ: عَصَرَتِ الظَّرْفَ فَنَفِدَ السَّمْنُ).

فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (أَيْ: ذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ).

فَقَالَ: «عَصَرْتِيهَا؟»

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ (أَيْ: السَّمْنُ) قَائِمَاً».

وروى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا (أَيْ: أَضْيَافُهُمَا الذينَ يَنْزِلُونَ عِنْدَهُمَا) حَتَّى كَالَهُ (أَيْ: فَنَقُصَ).

فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ.

فَقَالَ لَهُ: «لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ (أَيْ: دَائِمَاً يَكْفِيكُمْ) وَلَقَامَ لَكُمْ (أَيْ: مُدَّةَ الحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ)».

فَالكَيْلُ العَارِضُ مَنَعَ المَدَدَ الفَائِضَ.

وَقَدْ بَيَّنَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ حِكْمَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ العُلَمَاءُ: الحِكْمَةُ في ذَلِكَ أَنَّ عَصْرَهَا وَكَيْلَهُ، مُضَادَّةٌ لِلتَّسْلِيمِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رِزْقِ اللهِ تَعَالَى، وَيَتَضَمَّنُ التَّدْبِيرَ، وَالْأَخْذَ بِالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَكَلُّفِ الإِحَاطَةِ بِأَسْرَارِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ.

فَعُوقِبَ فَاعِلُهُ بِزَوَالِهِ. اهـ. انْظُرْ شَرْحَ مُسْلِمٍ.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» لِأَنَّهُ فِيمَنْ يَخْشَى الخِيَانَةَ، أَو كِيلُوا مَا تُخْرِجُونَهُ للنَّفَقَةِ لِئَلَّا يَخْرُجَ أَكْثَرُ مِنَ الحَاجَةِ أَو أَقَلُّ، بِشَرْطِ بَقَاءِ البَاقِي مَجْهُولَاً، أَو كِيلُوا عِنْدَ الشِّرَاءِ، أَو عِنْدَ إِدْخَالِهِ المَنْزِلَ. اهـ.

أَمَّا قَضِيَّةُ الحُبَابِ بْنِ المُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَهِيَ كَمَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ (انْظُرْ سِيرَةَ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهَا) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُبَادِرُهُمْ إلى المَاءِ، حَتَّى جَاءَ إلى مَاءٍ في بَدْرٍ، فَنَزَلَ بِهِ.

فَقَالَ الحُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَا نَتَقَدَّمُهُ، وَلَا نَتَأَخَّرُ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ».

فَقَالَ الحُبَابُ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ، حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَ، ثُمَّ نُغَوِّرُ (بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ وَشَدِّ الوَاوِ، أَيْ: نَدْفِنُهَا وَنُذْهِبُهَا، كَمَا في شَرْحِ المَوَاهِبِ) مَا وَرَاءَهُ مِنَ الطَّلَبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضَاً فَنَمْلَؤُهَا مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ ـ أَيْ: المُشْرِكُونَ ـ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».

وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: الرَّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الحُبَابُ.

فَلَيْسَ في هَذَا الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخْطِئَاً في رَأْيِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الوَاقِعَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ إِلْزَامِ القَضِيَّةِ أَو الْتِزَامِهَا، إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ عَرْضِ القَضِيَّةِ، لِإِبْدَاءِ رَأْيِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالخِبْرَةِ في ذَلِكَ، عَلَى عَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرْضِهِ أَمْثَالَ هَذِهِ الأُمُورِ عَلى أَهْلِ الرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهَا.

وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحْسَنَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَرَاحَ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَيُلْزِمُهُمْ بِهِ! بَلْ مِنْ بَابِ عَرْضِ القَضِيَّةِ للرَّأْيِ وَالمُشَاوَرَةِ فِيهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للحُبَابِ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ» فَكَانَ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَوْقِفَ المُسْتَشِيرِ الذي عَرَضَ القَضِيَّةَ وَلَمْ يَلْتَزِمْهَا، وَلَو أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ أَو الْتَزَمَ ذَلِكَ لَحَمَلَ الصَّحَابَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 6/ جمادى الآخرة/1441هـ، الموافق: 31/ كانون الثاني / 2020م

 

225 مشاهدة
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  أسئلة في السيرة النبوية

 السؤال :
 2020-05-10
 5210
مِنَ المَعْلُومِ أَنَّ مَا تَرَكَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ صَدَقَةً، فَلِمَاذَا لَمْ تَكُنْ بُيُوتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْتِحَاقِهِ بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى صَدَقَةً؟
 السؤال :
 2019-09-30
 6840
هَلْ هُنَاكَ نَسْخٌ في أَحَادِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ الحَالُ في القُرْآنِ العَظِيمِ؟
 السؤال :
 2019-06-23
 7066
أُمُّنَا السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لَمْ تُرْزَقْ بِوَلَدٍ، فِلَمَاذَا كَانَتْ تُكَنَّى بأم عبد الله؟
 السؤال :
 2019-06-16
 3388
هَلْ كَانَتْ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ يَحْتَجِبْنَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
 السؤال :
 2019-05-08
 2645
هل ثبت أن سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ؟ وما هي الحكمة في عدم تأذينه إذا ثبت هذا؟
 السؤال :
 2019-03-26
 3506
ما اسم أولاد أمنا السيدة خديجة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قبل زواجها من الحبيب الأعظم سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

الفهرس الموضوعي

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5702
المقالات 3231
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424098853
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :