الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالحَنَابِلَةِ إلى حُرْمَةِ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْرَأِ الحَائِضُ وَلَا الجُنُبُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ وَلَو دُونَ آيَةٍ مِنَ المُرَكَّبَاتِ لَا المُفْرَدَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَتِ القِرَاءَةَ، فَإِنْ لَمْ تَقْصِدِ القِرَاءَةَ بَلْ قَصَدَتِ الثَّنَاءَ أَو الذِّكْرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ قَرَأَتِ الْفَاتِحَةَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ تُرِدِ القِرَاءَةَ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَصَرَّحُوا أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ كَسُورَةِ المَسَدِ، لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ نِيَّةُ الدُّعَاءِ فَيَحْرُمُ.
وَقَدْ أَجَازُوا لِلْمُعَلِّمَةِ الحَائِضِ تَعْلِيمَ القُرْآنِ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تَقْطَعَ بَيْنَ كُلِّ كَلِمَتَيْنِ، لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ بِالكَلِمَةِ قَارِئَةً.
كَمَا أَجَازُوا للحَائِضِ أَنْ تَتَهَجَّى بِالقُرْآنِ حَرْفًا حَرْفًا، أَوْ كَلِمَةً كَلِمَةً مَعَ القَطْعِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَرِهُوا لَهَا قِرَاءَةَ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ مِنَ القُرْآنِ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا قِرَاءَةُ القُنُوتِ، وَلَا سَائِرُ الأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ، كَحَرْفٍ لِلْإِخْلَال بِالتَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَقَصَدَتْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهَا أَمْ لَا، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ إِجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ، وَجَوَازِ النَّظَر فِي الْمُصْحَفِ، وَإِمْرَارِ مَا فِيهِ فِي الْقَلْبِ، وَكَذَا تَحْرِيكُ لِسَانِهَا وَهَمْسُهَا بِحَيْثُ لَا تُسْمِعُ نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ؛ وَيَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ، لِأَنَّهُ لَا إِعْجَازَ فِيهِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً، كَمَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَكْرِيرُ بَعْضِ آيَةٍ مَا لَمْ تَتَحَيَّل عَلَى الْقِرَاءَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهَا.
وَلَهَا تَهْجِيَةُ آيِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ لَهُ، وَلَهَا التَّفَكُّرُ فِيهِ وَتَحْرِيكُ شَفَتَيْهَا بِهِ مَا لَمْ تُبَيِّنِ الْحُرُوفَ، وَلَهَا قِرَاءَةُ أَبْعَاضِ آيَةٍ مُتَوَالِيَةٍ، أَوْ آيَاتٍ سَكَتَتْ بَيْنَهَا سُكُوتًا طَوِيلاً.
وَلَهَا قَوْل مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَلَمْ تَقْصِدْهُ، كَالْبَسْمَلَةِ، وَقَوْل الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَآيَةِ الاسْتِرْجَاعِ ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ وَآيَةِ الرُّكُوبِ، وَلَهَا أَيْضًا أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهَا وَهِيَ سَاكِتَةٌ، لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُنْسَبُ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَهَا أَنْ تَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ إِذَا خَافَتْ نِسْيَانَهُ، بَل يَجِبُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَأَجَازَ المَالِكِيَّةُ تِلَاوَةَ القُرْآنِ الكَرِيمِ للحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ في حَالَةِ وُجُودِ الدَّمِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا ـ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ ـ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تِلَاوَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ حَتَّى تَغْتَسِلَ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
لَا يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ القُرْآنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، وَأَجَازَ المَالِكِيَّةُ ذَلِكَ في حَالِ وُجُودِ الدَّمِ.
وَنَنْصَحُ أَنْ تَأْخُذَ بِقَوْلِ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، وَهُوَ الأَحْوَطُ، وَلِقُوَّةِ الدَّلِيلِ.
وَيُمْكِنُهَا أَنْ تُثَبِّتَ حِفْظَهَا عَنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ، إِمَّا مِنْ قَارِئَةٍ، أَو مُقْرِئٍ، أَوْ عَنْ طَرِيقِ تَسْجِيلٍ صَوْتِيٍّ أَوْ مَرْئِيٍّ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |