«فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي»

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَقَدْ روى الإمام البخاري في حَدِيثِ سُؤَالِ وَحْشِيٍّ عَنْ قَتْلِ سَيِّدِنَا حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ وَحْشِيٌّ: حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «آنْتَ وَحْشِيٌّ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟».

قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ.

قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي».

وَالمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي». حَتَّى لَا يَتَذَكَّرَ عَمَّهُ سَيِّدَنَا حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِمَكَانَتِهِ العَالِيَةِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا قُتِلَ عَمُّهُ سَيِّدُنَا حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدَاً».

ثُمَّ قَالَ لِفَاطِمَةَ وَلِعَمَّتِهِ صَفِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أَبْـشِرَا، أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ حَمْزَةَ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ» رواه الحاكم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُيُوخِهِ.

وَلَيْسَ المَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حَاقِدَاً عَلَيْهِ، حَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا، وَهُوَ القَائِلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ؛ يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ»؟ رواه الترمذي. فَهَذَا مِنْ سُنَّتِهِ الـشَّرِيفَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

كَيْفَ يَكُونُ حَاقِدَاً عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ وَهُوَ الذي عَلَّمَنَا بِأَنَّ الإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا»؟

كَيْفَ يَكُونُ حَاقِدَاً عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ وَقَدْ روى الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ نَاسَاً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً.

فَنَزَلَ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾. وَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾؟

وبناء على ذلك:

فَالحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغَيِّبَ وَجْهَهُ عَنْهُ حَتَّى لَا يَتَذَكَّرَ سَيِّدَنَا حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لِأَنَّ حَادِثَةَ اسْتِشْهَادِهِ كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ في نَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى صَرَّحَ أَنَّهُ لَنْ يُصَابَ بِمِثْلِهِ أَبَدَاً.

وَحَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ حَاقِدَاً عَلَيْهِ، وَقَدْ جَبَّ الإِسْلَامُ مَا صَدَرَ عَنْ وَحْشِيٍّ في الجَاهِلِيَّةِ، وَبَدَّلَ اللهُ تعالى سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ. هذا، والله تعالى أعلم.