الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ رَوَى الإمام البخاري عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ (أَسْوَأِ حَالَةٍ).
قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟
قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في المُصَنَّفِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا لَهَبٍ، أَعْتَقَ جَارِيَةً لَهَا، يُقَالُ لَهَا ثُوَيْبَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى أَبَا لَهَبٍ بَعْضُ أَهْلِهِ في النَّوْمِ، فَسَأَلَهُ مَا وَجَدَ؟
فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً، غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ في هَذِهِ مِنِّي ـ وَأَشَارَ إلى النَّقْرَةِ التي تَحْتَ إِبْهَامِهِ ـ في عِتْقِي ثُوَيْبَةَ.
وَجَاءَ في فَتْحِ البَارِي لابنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى قَالَ: وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي بَعْدَ حَوْلٍ فِي شَرِّ حَالٍ فَقَالَ: مَا لَقِيتُ بَعْدكُمْ رَاحَةً، إِلَّا أَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ.
قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ بَشَّرَتْ أَبَا لَهَبٍ بِمَوْلِدِهِ؛ فَأَعْتَقَهَا.
هَذَا التَّخْفِيفُ مِنَ العَذَابِ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورَاً﴾. لِأَنَّ اللهَ تعالى مَا أَنْجَاهُ مِنَ نَارِ جَهَنَّمَ وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ، فَكَأَنَّ عَمَلَهُ مِنْ إِعْتَاقِ ثُوَيْبَةَ لَمْ يُفِدْهُ أَصْلَاً.
يَقُولُ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هَذَا النَّفْعُ إِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ العَذَابِ، وَإِلَّا فَعَمَلُ الكَافِرِ كُلُّهُ مُحْبَطٌ بِلَا خِلَافٍ، أَيْ: لَا يَجِدُهُ في مِيزَانِهِ، وَلَا يَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ. / كذا في شرح الزرقاني.
هَذَا التَّخْفِيفُ قَدْ يَكُونُ في حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ (الضَّحْضَاحُ مَا رَقَّ مِنَ المَاءِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ إلى نَحْوِ الكَعْبَيْنِ) يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ».
وفي رِوَايَةٍ للشَّيْخَيْنِ عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟
قَالَ: «نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام مسلم قَالَ العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟
قَالَ: «نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ».
وبناء على ذلك:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورَاً﴾. يُفِيدُ بِأَنَّ عَمَلَهُمُ الصَّالِحَ لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، بِحَيْثُ يَجِدُونَهُ في المِيزَانِ، وَلَا يَجْعَلُ مَآلَهُمْ إلى الجَنَّةِ، وَإِنْ خُفِّفَ عَنْهُمُ العَذَابُ في نَارِ جَهَنَّمَ، فَخُلُودُهُمْ في نَارِ جَهَنَّمَ يُفِيدُ بِأَنَّ عَمَلَهُمُ الصَّالِحَ جَعَلَهُ اللهُ تعالى هَبَاءً مَنْثُورَاً. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |