﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾

9473 - ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾

12-02-2019 7692 مشاهدة
 السؤال :
ما تفسير قول الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؟
 الاجابة :
رقم الفتوى : 9473
 2019-02-12

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾. أَيْ: هَؤُلَاءِ الذينَ كَفَرُوا بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَخَذُوا يُدَبِّرُونَ للقَضَاءِ عَلَيْهِ.

وَالمَكْرُ: هُوَ التَّدْبِيرُ الذي يَجْتَهِدُ صَاحِبُهُ في إِخْفَائِهِ عَمَّنْ يَمْكُرُ بِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

مَكْرٌ مَحْمُودٌ: وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ فِعْلاً جَمِيلاً.

وَمَكْرٌ مَذْمُومٌ: وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ فِعْلاً قَبِيحاً.

قَالَ تعالى في المَكْرَيْنِ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرَاً وَمَكَرْنَا مَكْرَاً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. فَمَكْرُ اللهِ تعالى مَحْمُودٌ، وَمَكْرُهُمْ مَذْمُومٌ، وَمِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ» رواه الترمذي وأبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَالكُفَّارُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَكَرُوا، يَعْنِي دَبَّرُوا حِيلَةً لِقَتْلِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ دَبَّرَ أَمْرَاً آخَرَ لِحِمَايَتِهِ، فَأَلْقَى شَبَهَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الذينَ مَكَرُوا بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَفَعَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِ، وَاللهُ تعالى خَيْرُ مَنْ يُدَبِّرُ الأُمُورَ، وَلَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ.

فَمَكْرُ اللهِ تعالى صِفَةُ مَدْحٍ في حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خِدَاعُ وَمَكْرُ المَاكِرِينَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ حِيَلُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وتعالى قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَعَلَى إِفْشَالِ خُطَطِهِمْ التي دَبَّرُوهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. فَيَعْنِي: اذْكُرْ يَا رَسُولَ اللهِ للعِظَةِ وَالاعْتِبَارِ قِصَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ قَالَ اللهُ تعالى لَهُ في نِدَاءٍ رَحِيمٍ: إِنِّي مُنَجِّيكَ مِنْ أَذَى الذينَ مَكَرُوا بِكَ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾. هَذِهِ التَّوْفِيَةُ لَيْسَتْ كَتَوْفِيَةِ بَاقِي الأَنْفُسِ التي قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.

وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ كَلِمَةَ ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الوَفَاةِ، بَلْ هِيَ مِنَ التَّوْفِيَةِ فَاللهُ تَعَالَى وَفَّاهُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ البَقَاءِ فِي الأَرْضِ؛ كَمَا تَقُولُ: وُفِّيَ العَامِلُ حَقَّهُ، أَيْ: بِدُونِ نُقْصَانٍ.

وَلَيْسَ في الآيَةِ إِشَارَةٌ إلى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ رُوحَاً، كَمَا تُرْفَعُ أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، بَلْ رَفَعَهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾.

مَا دَامَ الذينَ مَكَرُوا بِهِ أَرَادُوا قَتْلَهُ رَفَعَهُ اللهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً، لِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَلَا يَصْلُحُ مُقَابِلَاً لَهُمَا رَفْعُهُ بِالرُّوحِ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ رَفْعَهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً مَا وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاللهِ، لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمَاً عَادِلَاً، فَـلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ القِلَاصُ (جَمْعُ قَلُوصٍ وَهِيَ مِنَ الإِبِلِ كَالفَتَاةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالحَدَثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُزْهَدَ فِيهَا وَلَا يُرْغَبَ في اقْتِنَائِهَا لِكَثْرَةِ الأَمْوَالِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ القِلَاصُ لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الإِبِلِ التي هِيَ أَنْفَسُ الأَمْوَالِ عِنْدَ العَرَبِ) فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى المَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ». وَهَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِجَسَدِهِ الطَّاهِرِ مِنَ المَلَكُوتِ الأَعْلَى.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَبْطَلَ كَيْدَ الذينَ أَرَادُوا قَتْلَ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَفَعَهُ تَبَارَكَ وتعالى إِلَيْهِ رُوحَاً وَجَسَدَاً، وَهَذَا الرَّفْعُ فِيهِ إِشَارَةٌ إلى مَعْنَى الكَرَامَةِ وَالإِعْزَازِ وَالحِمَايَةِ، وَأَنَّهُ تعالى حَامِيهِ مِنْهُمْ، وَمَانِعُهُ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِهِ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ سَيَمُوتُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلى الأَرْضِ، لِأَنَّ الوَاوَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾. لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَالمَعْنَى إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا، وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ. هذا، والله تعالى أعلم.

 

المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان
7692 مشاهدة
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  التفسير وعلوم القرآن

 السؤال :
 2023-08-07
 207
مَا تَفْسِيرُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾؟
رقم الفتوى : 12669
 السؤال :
 2023-03-23
 1419
مَا هِيَ النَّارُ الكُبْرَى المُشَارُ إِلَيْهَا في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى* ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾؟
رقم الفتوى : 12465
 السؤال :
 2023-03-23
 611
مَا تَفْسِيرُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾؟
رقم الفتوى : 12464
 السؤال :
 2023-01-30
 1661
مَا هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾؟
رقم الفتوى : 12370
 السؤال :
 2022-08-03
 1426
مَا المَقْصُودُ بِالخَيْطِ الأَبْيَضِ وَالخَيْطِ الأَسْوَدِ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾؟
رقم الفتوى : 12087
 السؤال :
 2022-07-20
 946
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾. كَيْفَ يَكُونُ الإِيذَاءُ للهِ تعالى، وَحَاشَاهُ أَنْ يَصِلَ لَهُ ضُرٌّ مِنَ الخَلْقِ؟
رقم الفتوى : 12068

الفهرس الموضوعي

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412710284
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :