184ـ مع الحبيب المصطفى: أمارات خارقة للعادة عند ولادته

184ـ مع الحبيب المصطفى: أمارات خارقة للعادة عند ولادته

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

184ـ أمارات خارقة للعادة عند ولادته

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الحَدِيثَ عن عُظَمَاءِ الأُمَّةِ يَحْلُو، ولكنَّ الحَدِيثَ عن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لا يُجَارِيهِ أَيُّ حَدِيثٍ في رَوْعَتِهِ وحَلاوَتِهِ وطَلاوَتِهِ، لقد مَلأَ اللهُ تعالى قُلُوبَ المُؤمِنِينَ حُبَّاً بهذا الحَبِيبِ المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ولقد اصطَفَاهُ اللهُ تعالى على سَائِرِ الخَلْقِ، فَجَعَلَهُ تَبَارَكَ وتعالى أَكرَمَهُم نَسَبَاً، وأَحَبَّهُم إِلَيهِ، فَهُوَ سَيِّدُ الخَلْقِ، وحَبِيبُ الحَقِّ، تَشتَاقُ إِلَيهِ نُفُوسُ المُؤمِنِينَ، وتَرِقُّ وتَلِينُ وتَحِنُّ عِندَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُلُوبُ المُؤمِنِينَ.

أيُّها الإخوة الكرام: عِندَ الحَدِيثِ عن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَطمَعُ نُفُوسُ المُؤمِنِينَ إلى رُؤيَتِهِ ولو مَنَامَاً، وتَسأَلُ اللهَ تعالى شَفَاعَتَهُ يَومَ القِيَامَةِ، وأن تَرِدَ حَوْضَهُ الشَّرِيفَ، لِتَشْرَبَ من يَدِهِ الشَّرِيفَةِ شَرَبَةً هَنِيئَةً مَرِيئَةً لا تَظمَأُ بَعدَهَا أَبَدَاً.

حَيَاتُهُ الشَّرِيفَةُ مَعْلُومَةٌ كُلُّهَا:

أيُّها الإخوة الكرام: هذا شَهْرُ رَبِيعٍ الأَنوَرِ قد أَظَلَّ الأُمَّةَ، لِيُذَكِّرَهُم بِنَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَحَيَاتُهُ الشَّرِيفَةُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ من الوِلادَةِ الكَرِيمَةِ إلى وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَارَاتٌ خَارِقَةٌ للعَادَةِ عِندَ وِلادَتِهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَت لِوِلادَتِهِ المُبَارَكَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَارَاتٌ خَارِقَةٌ للعَادَةِ، خَارِجَةٌ عن التَّأثِيرِ البَشَرِيِّ، لافِتَةٌ النَّظَرَ إلى استِئنَافِ العَالَمِ والحَيَاةِ البَشَرِيَّةِ دَورَاً جَدِيدَاً في الدِّينِ والأَخلاقِ، ومَسِيرَةِ الرَّكْبِ الإنسَانِيِّ ومَصِيرِهِ، وهيَ حَوَادِثُ خَارِقَةٌ للعَادَةِ، مُستَرعِيَةٌ للانتِبَاهِ مِمَّن رُزِقَ قُوَّةَ الاستِنتَاجِ والاعتِبَارِ، من هذهِ الأَمَارَاتِ الخَارِقَةِ للعَادَةِ:

أولاً: اِرتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَى:

أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَ في كِتَابِ الوَفَا بِتَعرِيفِ فَضَائِلِ المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: عَن مَخْزُومِ بنِ هَانِئٍ، عَن أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، وَأَتَتْ لَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ارتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَى ـ اِضطَرَبَ وَتَحَرَّكَ حَرَكَةً سَمِعَ لَهَا صَوْتَاً ـ وَسَقَطَتْ مِنهُ أَربَعَ عَشرَةَ شُرفَةً، وَغَاضَت بُحَيرَةُ سَاوَة ـ غَارَ مَاؤُهَا ـ  وَخَمَدَت نَارُ فَارِسَ، وَلَم تَخمُدْ قَبلَ ذَلكَ بِأَلفِ عَامٍ، وَرَأَى المُوبِذَانُ ـ قَاضِي القُضَاةِ بالفُرسِ ـ  إِبِلاً صِعَابَاً تَقُودُ خَيلاً عِرَابَاً قد قَطَعَت دِجلَةَ وانتَشَرَت في بِلادِهَا.

فَلَمَّا أَصبَحَ كِسْرَى أَفزَعَهُ مَا رَأَى، فَصَبَرَ عَلَيهِ تَشَجُّعَاً، ثمَّ رَأَى أن لا يَكتُمَ ذَلكَ عن وُزَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ.

فَلَبِسَ تَاجَهُ، وَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَجَمَعَهُم إِلَيهِ.

فَلَمَّا اجتَمَعُوا عِندَهُ قَالَ: أَتَدرُونَ فِيمَ بَعَثتُ إِلَيكُم؟

قَالُوا: لا، إلا أن يُخبِرَنَا المَلِكُ.

فَبَينَا هُم كَذَلِكَ وَرَدَ عَلَيهِم كِتَابٌ بِخُمُودِ النِّيرَانِ، فازدَادَ غَمًّاً إلى غَمِّهِ.

فَقَالَ المُوْبِذَانُ: وَأَنَا، أَصْلَحَ اللهُ المَلِكَ، قَد رَأَيتُ في هذهِ اللَّيلَةِ رُؤيَا؛ وَقَصَّ عَلَيهِ الرُّؤيَا في الإِبلِ.

فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ يَكُونُ هذا يا مُوبِذَانُ؟

قَالَ: حَادِثٌ يَكُونُ من عِندِ العَرَبِ.

ثانياً: طَلَعَ اللَّيلَةَ نَجْمُ أَحمَدَ:

أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَ في كِتَابِ الرَّوضِ الأُنفِ: عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: واللهِ إِنِّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ ـ شَبَّ ولم يَبلُغْ ـ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ أَعْقِلُ كُلَّ مَا سَمِعْتُ، إذْ سَمِعْتُ يَهُودِيَّاً يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ ـ حِصْنٍ مَبنِيٍّ بالحِجَارَةِ ـ بِيَثْرِبَ: يَا مَعْشَرَ يَهُود، حَتَّى إذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ، مَا لَك؟

قَالَ: طَلَعَ اللَّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدَ، الذِي وُلِدَ بِهِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَقُلْتُ: ابْنُ كَمْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَقْدَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ؟

فَقَالَ: ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَقَدِمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَسَمِعَ حَسَّانُ مَا سَمِعَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ.

وجَاءَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لابنِ كَثِيرٍ: عَن أُسَامَةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ زَيدُ بنُ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ: قَالَ لِي حَبْرٌ من أَحبَارِ الشَّامِ: قَد خَرَجَ في بَلَدِكَ نَبِيٌّ، أو هُوَ خَارِجٌ، قَد خَرَجَ نَجْمُهُ، فَارجِعْ فَصَدِّقْهُ واتَّبِعْهُ.

ثالثاً: اِضطِرَابُ اليَهُودِ يَومَ مَوْلِدِهِ:

أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام الحاكم عَن السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قَالَت: كَانَ يَهُودِيٌّ قَد سَكَنَ مَكَّةَ يَتَّجِرُ بِهَا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ في مَجْلِسٍ من قُرَيشٍ: يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ، هَل وُلِدَ فِيكُمُ اللَّيلَةَ مُولُودٌ؟

فَقَالُوا: واللهِ مَا نَعْلَمُهُ.

قَالَ: اللهُ أَكبَرُ، أَمَّا إذا أَخطَأَكُم فلا بَأسَ، فَانظُرُوا واحفَظُوا مَا أَقُولُ لَكُم: وُلِدَ هذهِ اللَّيلَةَ نَبِيُّ هذهِ الأُمَّةِ الأَخِيرَةِ بَينَ كَتِفَيهِ عَلامَةٌ فِيهَا شَعَرَاتٌ مُتَوَاتِرَاتٌ كَأَنَّهُنَّ عُرْفُ فَرَسٍ، لا يَرضَعُ لَيلَتَينِ، وَذَلِكَ أنَّ عِفرِيتَاً من الجِنِّ أَدخَلَ أُصبُعَيهِ في فَمِهِ، فَمَنَعَهُ الرِّضَاعَ، فَتَصَدَّعَ القَومُ من مَجْلِسِهِم وَهُم مُتَعَجِّبُونَ من قَولِهِ وَحَدِيثِهِ.

فَلَمَّا صَارُوا إلى مَنَازِلِهِم أَخبَرَ كُلُّ إِنسَانٍ مِنهُم أَهلَهُ فَقَالُوا: قد وُلِدَ لِعَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ غُلامٌ سَمَّوهُ مُحَمَّدَاً.

فَالتَقَى القَومُ فَقَالُوا: هَل سَمِعتُم حَدِيثَ اليَهُودِيِّ؟ وَهَل بَلَغَكُم مُولِدُ هذا الغُلامِ؟

فَانطَلَقُوا حَتَّى جَاؤُوا اليَهُودِيَّ، فَأَخبَرُوهُ الخَبَرَ؛ قَالَ: فَاذهَبُوا مَعِيَ حَتَّى أَنظُرَ إِلَيهِ، فَخَرَجُوا حَتَّى أَدخَلُوهُ على آمِنَةَ.

فَقَالَ: أَخرِجِي إِلَينَا ابنَكِ، فَأَخرَجَتْهُ، وَكَشَفُوا لَهُ عَن ظَهْرِهِ، فَرَأَى تِلكَ الشَّامَةَ، فَوَقَعَ اليَهُودِيُّ مَغْشِيَّاً عَلَيهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالُوا: وَيلَكَ، مَا لَكَ؟

قَالَ: ذَهَبَتْ واللهِ النُّبُوَّةُ من بَنِي إِسرَائِيلَ، فَرِحتُم بِهِ يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ، أَمَا واللِه لَيَسْطُوَنَّ بِكُم سَطْوَةً يَخرُجُ خَبَرُهَا من المَشرِقِ والمَغرِبِ.

رابعاً: البَرَكَةُ في دِيَارِ بَنِي سَعْدٍ:

أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّة لابنِ هِشَامٍ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ أُمُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدِّثُ: أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ.

قَالَتْ: وَذَلِك فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ ـ الجَدبُ والقَحطُ ـ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئاً، فَخَرَجتُ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ ـ الأَتَانُ الأُنثَى مِنَ الحَمِيرِ، والقَمرَاءُ الَّتِي فِي لَونِهَا بَيَاضٌ ـ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا ـ نَاقَةٌ مُسِنَّةٌ ـ  واللهِ مَا تَبِضُّ ـ لَا تُرَشِّحُ ـ بِقَطْرَةٍ، وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا ـ عَبدِ اللهِ بِنَ الحَارِثِ وَهُوَ أَخُو رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَضَاعَة ـ الذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ مِن الْجَوْعِ، مَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَذِّيهِ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمَتْ بِالرَّكْبِ ـ أَطَالَت عَلَيهِم المَسَافَةَ لِتُمهِلَهُم عَلَيهَا ـ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفَاً وَعَجَفَاً، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قِيلَ لَهَا: إنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِك أَنَّا إنَّمَا كُنَّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ، وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ، فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلا أَخَذَتْ رَضِيعاً غَيْرِي.

فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي: واللهِ إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعاً، واللهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ.

قَالَ: لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً.

قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلا أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ، فَلَمَّا أَخَذْتُهُ رَجَعْتُ بِهِ إلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا.

وَمَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا إنِّهَا لَحَافِلٌ ـ أي: مُمتَلِئَةُ الضَّرْعِ من اللَّبَنِ ـ فَحَلَبَ مِنْهَا مَا شَرِبَ، وَشَرِبْتُ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا رِيَّاً وَشِبَعاً، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ.

قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: تَعَلَّمِي واللهِ يَا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أَخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً.

فَقُلْتُ: واللهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجْنَا وَرَكِبْتُ أَنَا أَتَانِي، وَحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فواللهِ لَقَطَعَتْ بِالرَّكْبِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَبُو ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكِ اِرْبَعِي عَلَيْنَا ـ اُرفُقِي واقتَصِدِي ـ أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانُكِ الَّتِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟

فَأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى واللهِ إنَّهَا لَهِيَ هِيَ.

فَيَقُلْنَ: واللهِ إنَّ لَهَا لَشَأْناً.

قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، وَمَا أَعْلَمُ أَرْضاً مِنْ أَرْضِ اللهِ أَجْدَبَ مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعاً لُبَّنَاً، فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ، وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ، حَتَّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمْ، اِسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعاً، مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعاً لُبَّنَاً.

فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرَّفُ مِن اللهِ الزِّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْتُهُ، وَكَانَ يَشِبُّ شَبَاباً لَا يَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ، فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتَّى كَانَ غُلَاماً جَفْراً ـ الجَفْرُ: الصَّبِيُّ يَقْرُبُ البُلُوغَ ـ.

قَالَتْ: فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ.

فَكَلَّمْنَا أُمَّهُ وَقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حَتَّى يَغْلُظَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَ ـ مَرَضَ ـ مَكَّةَ.

قَالَتْ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتَّى رَدّتْهُ مَعَنَا.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الحَدِيثَ عن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَرَفٌ عَظِيمٌ لَنَا، وخَاصَّةً في زَمَنٍ تَكَالَبَ فِيهِ الشَّرقُ والغَربُ على تَصْوِيرِ شَخْصِيَّةِ هذا الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِصُورَةٍ نَابِعَةٍ من قَلْبٍ حَقُودٍ حَسُودٍ مُبغِضٍ، ومَا ذَاكَ إلا لِتَنفِيرِ النَّاسِ من هذهِ الشَّخْصِيَّةِ العَظِيمَةِ التي قَالَ فِيهَا مَولانَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

من مَظَاهِرِ رَحمَتِهِ أنَّهُ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَرَكَةً للعَالَمِ أَجمَعَ ورَحمَةً، فمن عَرَفَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَقَّ المَعرِفَةِ نَالَتْهُ تِلكَ الرَّحمَةُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، والتَمَسَ بَرَكَتَهُ في حَيَاتِهِ، وبَعدَ انتِقَالِهِ إلى الرَّفِيقِ الأَعلَى، وأمَّا من لم يَعْرِفْهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، ولم يُؤمِنْ بِهِ، فقد نَالَتْهُ رَحمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا، وحُرِمَ من رَحمَتِهِ يَومَ القِيَامَةِ إذا مَاتَ كَافِرَاً بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَسأَلُ اللهَ تعالى أن يَرْحَمَنَا بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأن يَرُدَّنَا إلى دِينِهِ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

 

الاثنين: 30/صفر/1435هـ، الموافق: 22/كانون الأول / 2014م

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الحبيب المصطفى   

26-06-2019 2317 مشاهدة
316ـ العناية الربانية بالحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد

 26-06-2019
 
 2317
20-06-2019 1386 مشاهدة
315ـ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 20-06-2019
 
 1386
28-04-2019 1169 مشاهدة
315ـ«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1169
28-04-2019 1181 مشاهدة
314ـ في محط العناية

لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1181
21-03-2019 1764 مشاهدة
313- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾

فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد

 21-03-2019
 
 1764
13-03-2019 1628 مشاهدة
312- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ»

وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد

 13-03-2019
 
 1628

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412609259
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :