467ـ خطبة الجمعة: دروس من الابتلاء

467ـ خطبة الجمعة: دروس من الابتلاء

الحمد لله رب العالمين

.

467ـ خطبة الجمعة: دروس من الابتلاء

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ الابْتِلاءَ من اللهِ تعالى خَيْرٌ في حَقِّ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرَاً يُصِبْ مِنْهُ» رواه الإمام البخاري عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْـمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَو الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» رواه الإمام مسلم عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْـمُؤْمِنِ وَالْـمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الإمام الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

دُرُوسٌ من الابْتِلاءِ:

يا عباد الله: الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ هُوَ الذي يَتَعَلَّمُ الدُّرُوسَ، وَيَأْخُذُ العِبَرَ من كُلِّ مَا يُحِيطُ بِهِ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ، وَخَاصَّةً أَثْنَاءَ المِحَنِ والابْتِلاءَاتِ، فالابْتِلاءُ مَدْرَسَةٌ تُعَلِّمُ المُؤْمِنِينَ دُرُوسَاً عَمَلِيَّةً، من هذهِ الدُّرُوسِ:

أولاً: دَرْسٌ في التَّوْحِيدِ:

يا عباد الله: الابْتِلاءُ يُعَلِّمُ المُؤْمِنَ دَرْسَاً من دُرُوسِ التَّوْحِيدِ، بِحَيْثُ يُطْلِعُكَ على حَقِيقَةِ نَفْسِكَ، بِأَنَّكَ عَبْدٌ ضَعِيفٌ، لا حَوْلَ لَكَ ولا قُوَّةَ إلا بِرَبِّكَ، وَتَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ واللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ﴾.

عِنْدَ ذَلِكَ تَلْتَجِئُ إلى اللهِ تعالى حَقَّ الالتجاءِ، وَتَعْلَمُ أَنَّهُ لا كَاشِفَ لِمَا بِكَ إلا اللهُ تعالى، فَيَسْقُطُ بِذَلِكَ جَاهُكَ وَتِيهُكَ وَعُجْبُكَ وَغُرُورُكَ وَغَفْلَتُكَ، وَتَتَيَقَّنُ بِأَنَّكَ إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ، فَتَلُوذُ بِمَوْلاكَ جَلَّ وَعَلا، وَبِأَنَّكَ ضَعِيفٌ، فَتَلْتَجِئُ إلى القَوِيِّ العَزِيزِ، وَتَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ.

ثانياً: دَرْسٌ في حَقِيقَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، الابْتِلاءُ يُعْطِي المُؤْمِنَ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً عَن حَقِيقَةِ هذه الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعَن زَيْفِهَا، وَأَنَّهَا مَتَاعُ الغُرُورُ، وَأَنَّهَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَعَرَضٌ حَائِلٌ، وَأَنَّ نَعِيمَهَا مَمْزُوجٌ بالمُنَغِّصَاتِ، فَكَيْفَ بِمُنَغِّصَاتِهَا؟

وَتُعْطِيهِ دَرْسَاً بِأَنَّ الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ تَكْمُنُ وَرَاءَ هذهِ الحَيَاةِ، حَيْثُ فِيهَا مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَـشَرٍ ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. أَمَّا هذهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَنَكَدٌ وَجُهْدٌ وَكَبَدٌ، وَهِيَ مُرْتَحِلَةٌ مُدْبِرَةٌ، وَأَمَّا الآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ مُقْبِلَةٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ، الابْتِلاءُ يُعَرِّفُكَ حَقِيقَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، بِأَنَّهَا مُتَقَلِّبَةٌ لا تَصْفُو لِأَحَدٍ، إِذَا أَضْحَكَتْكَ يَوْمَاً أَبْكَتْكَ أَيَّامَاً، فَمَا أَسْرَعَ العُبُوسَ من ابْتِسَامَتِهَا، وَمَا أَسْرَعَ القَطْعَ من وَصْلِهَا، وَمَا أَسْرَعَ الابْتِلاءَ من نَعِيمِهَا؟

ثالثاً: دَرْسٌ يُذَكِّرُكَ بِفَضْلِ اللهِ تعالى عَلَيْكَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الابْتِلاءُ يُذَكِّرُكَ بِفَضْلِ اللهِ تعالى عَلَيْكَ، وَنِعَمِهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنَاً فِي سِرْبِهِ، مُعَافَىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» رواه الترمذي عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْـخَطْمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

الابْتِلاءُ يَشْرَحُ لَكَ مَعْنَى العَافِيَةِ التي تَمَتَّعْتَ بِهَا سِنِينَ وَلمْ تُقَدِّرْ قَدْرَهَا، يَشْرَحُ لَكَ مَعْنَى الأَمْنِ الذي مَا عَرَفْتَ قَدْرَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ، يَشْرَحُ لَكَ مَعْنَى التَّرَاحُمِ الذي حُرِمْتَهُ، ولَوْلا الابْتِلاءُ كَيْفَ تَعْرِفُ هذهِ المَعَانِي؟

رابعاً: دَرْسٌ في الفَرَحِ والأَسَى:

يَا عِبَادَ اللهِ، الابْتِلاءُ يُعْطِيكَ دَرْسَاً حَقِيقِيَّاً في الفَرَحِ والأَسَى، يُعْطِيكَ دَرْسَاً بِأَنْ لا تَفْرَحَ فَرَحَاً يُطْغِيكَ، ولا تَأَسَى أَسَىً يُفْنِيكَ، يُذَكِّرُكَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.

خامساً: دَرْسٌ يُذَكِّرُكَ بِعُيُوبِ نَفْسِكَ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الابْتِلاءُ يُذَكِّرُكَ بِعُيُوبِ نَفْسِكَ، حَتَّى تَتُوبَ إلى اللهِ تعالى، يُذَكِّرُكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾.

الابْتِلاءُ فُرْصَةٌ لَكَ حَتَّى تَتُوبَ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ أَنْ تَنْتَقِلَ إلى الآخِرَةِ إلى العَذَابِ الأَكْبَرِ، يُذَكِّرُكَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. والعَذَابُ الأَدْنَى هُوَ الابْتِلاءُ في الدُّنْيَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يا عباد الله، الابْتِلاءُ دَرْسٌ عَمَلِيٌّ يُرَبِّينَا على الصَّبْرِ، وَمَا أَحْوَجَنَا إلى الصَّبْرِ في كُلِّ شَيْءٍ، نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى دَرْسٍ في الصَّبْرِ على الطَّاعَةِ، والصَّبْرِ عَن المَعْصِيَةِ، والصَّبْرِ على أَقْدَارِ اللهِ تعالى، والصَّبْرُ هُوَ زَادُنَا إلى جَنَّةِ الخُلُودِ ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **      **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 22/ صفر /1437هـ، الموافق: 4/كانون الأول / 2015م

 2015-12-04
 1333
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-03-2024 87 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 87
21-03-2024 644 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 644
14-03-2024 980 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 980
08-03-2024 866 مشاهدة
903ـ خطبة الجمعة: استقبل شهر رمضان بالأمور الآتية

هَا نَحْنُ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَنْعِمْ بِالصَّوْمِ عِبَادَةً، بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتُ، وَتَكْفِيرُ الخَطِيئَاتِ، وَكَسْرُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكْثِيرُ الصَّدَقَاتِ، وَوَفْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَشُكْرُ عَالِمِ الخَفِيَّاتِ، وَالانْزِجَارُ ... المزيد

 08-03-2024
 
 866
09-02-2024 2558 مشاهدة
902ـ خطبة الجمعة: حاله صلى الله عليه وسلم في شعبان

إِنَّ المُؤْمِنَ لَيَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَمُدُّ اللهُ تعالى لَهُ في أَجَلِهِ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَبْقَاهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ غَنِيمَةٌ لَهُ لِيَتَزَوَّدَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ، وَيَحْرُثَ فِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، ... المزيد

 09-02-2024
 
 2558
02-02-2024 2264 مشاهدة
901ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾

لِنَكنْ جَمِيعًا عَلَى يَقِينٍ أَنَّنَا سَنَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. أَلَا وَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الجَنَّةِ، وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّ ... المزيد

 02-02-2024
 
 2264

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412010356
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :