.
486ـ خطبة الجمعة: العلماء الراسخون في العلم أبصر الناس بالشر
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: الفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ أَوْرَثَتِ الفُرْقَةَ وَالخِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ الْتبَاسِ الآرَاءِ حَوْلَهَا، وَلِحَيْرَةِ الحُلَمَاءِ وَأوْلِي الأَلْبَابِ في أَمْرِهَا، فَضْلَاً عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ، لِذَا كَانَ مِنَ الوَاجِبِ على عَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَكُفُّوا أَلْسِنَتَهُم وَأَيْدِيَهُم أَيَّامَ الفِتَنِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَهُم بِسَبَبِ ذُنُوبِهِم، فَيَرْجِعُوا إلى اللهِ تعالى، وَيَتُوبُوا وَيَسْتَغْفِرُوا لَعَلَّهُم يُرْحَمُونَ.
وَلَكِنْ، وَبِكُلِّ أَسَفٍ عِنْدَمَا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ في هَذَا البَلَدِ الحَبِيبِ، الكُلُّ اجْتَرَأَ على الفَتْوَى، مِمَّنْ يَعْلَمُ وَمِمَّنْ لَا يَعْلَمُ، حَتَّى تَكَلَّمَ في شَأْنِ الأُمَّةِ الرُّوَيْبِضَةُ، وَحَلَّ بِالأُمَّةِ مَا حَلَّ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَتَهْدِيمِ البُيُوتِ، وَسَلْبِ الأَمْوَالِ، وَتَعْطِيلِ المَصَالِحِ العَامَّةِ على جَمِيعِ الأَصْعِدَةِ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ.
العُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالشَّرِّ:
يَا عِبَادَ اللهِ: قُولُوا لِكُلِّ مَنْ يَجْتَرِئُ على الفَتْوَى: تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
جَاءَ في الطَّبَقَاتِ الكُبْرَى لابْنِ سعْدٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلَاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَطَأْطَأَ ابْنُ عُمَرَ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُجِبْهُ، حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مَسْأَلَتَهُ.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، أَمَا سَمِعْتَ مَسْأَلَتِي؟
قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِسَائِلِنَا عَمَّا تَسْأَلُونَنَا عَنْهُ؛ اتْرُكْنَا يَرْحَمُكَ اللهُ حَتَّى نَتَفَهَّمَ في مَسْأَلَتِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهَا جَوَابٌ عِنْدَنَا، وَإِلَّا أَعْلَمْنَاكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِهَا.
يَا عِبَادَ اللهِ: العُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ هُمْ أَبْصَرُ النَّاسِ بِالفِتَنِ وَمَدَاخِلِهَا، وَهُمْ أَبْـصَرُ النَّاسِ بِالـشَّرِّ وَمَدَاخِلِهِ، قَالَ تعالى في قِصَّةِ قَارُونَ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾. فَأَهْلُ العِلْمِ مُتَمَيِّزُونَ عَنْ غَيْرِهِم، فَهُمْ على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِم، لَمَّا رَأَوُا النَّاسَ يَتَمَنَّوْنَ لِأَنْفُسِهِم مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ، حَذَّرُوهُم مِنَ الشَّرِّ وَالفِتْنَةِ، وَبَيَّنُوا لَهُمُ الخَيْرَ، فَقَالُوا لَهُم: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾.
وَلَكِنْ، وَبِكُلِّ أَسَفٍ لَمْ يَعْرِفِ الذينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا أَنَّ العُلَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ على حَقٍّ، وَأَنَّ طَاعَتَهُم وَاجِبَةٌ عَلَيْهِم، إلا عِنْدَما حَلَّتْ عُقُوبَةُ اللهِ تعالى بِقَارُونَ، قَالَ تعالى عَنْ هَؤُلَاءِ: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾.
«دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدَاً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»:
يَا عِبَادَ اللهِ: في أَيَّامِ الفِتَنِ يُطَالِبُ عَامَّةُ النَّاسِ العُلَمَاءَ بِالقِيَامِ بِأَعْمَالٍ هُمْ عَنْهَا مُمْتَنِعُونَ، وَمَا امْتَنَعَ العُلَمَاءُ عَنْهَا إلا لِنَظَرِهِم في عَوَاقِبِ الأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا، لِأَنَّهُم على بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، لِأَنَّ عِلْمَهُم بِدِينِ اللهِ تعالى أَوْصَلَهُم إلى أَنَّ دَرْءَ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المَصَالِحِ، وَلِأَنَّهُم عَرَفُوا بِأَنَّ الشَّرْعَ الحَنِيفَ الذي جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لا يُقِرُّ اعْتِبَارَ مَصْلَحَةِ دُنْيَا على حِسَابِ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ عُظْمَى.
يَا عِبَادَ اللهِ: العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَالعَارِفُونَ بِاللهِ تعالى، الذينَ يَقُودُونَ الأُمَّةَ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وإلى سَلَامَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، نَظَرُوا إلى كِتَابِ اللهِ تعالى، وإلى سُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإلى سِيرَتِهِ العَطِرَةِ، وَمِنْ خِلَالِ ذَلِكَ قَادُوا الأُمَّةَ وَوَجَّهُوهَا، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ الفِتَنِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَذَلِكَ لِحَقْنِ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ، وَصِيَانَةِ هَذَا الدِّينِ مِنْ طَعْنِ الطَّاعِنِينَ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد ثَبَتَ نِفَاقُ عَبْدِ اللهِ بِنَ أُبَيٍّ، وَعُرِفَ اسْتِهْزَاؤُهُ بِاللهِ تعالى، وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِالمُؤْمِنِينَ، وَعُرِفَ بِإِشْعَالِ نَارِ الفِتَنِ، وَبِتَحْرِيضِ أَهْلِ الكِتَابِ وَالـمُشْرِكِينَ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى المُؤْمِنِينَ، وَكَانَ قَتْلُهُ مَشْرُوعَاً لَوْ أَرَادَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ، لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَتْلُهُ مِنَ المَفَاسِدِ.
فَحِينَ قَالَ: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْـمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾. وَقَالَ: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾. وَقَالَ مَا قَالَ في حَقِّ أُمِّنَا السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا.
قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْـمُنَافِقِ.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدَاً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» رواه الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ تَعْتَزُّونَ بِدِينِكُم، وَيَا مَنْ أَنْتُمْ حَرِيصُونَ كُلَّ الحِرْصِ على الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ تعالى، وَيَا مَنْ تَغَارُونَ على دِينِكُم مِنْ أَنْ يُخْدَشَ، وَمِنْ أَنْ يُسَاءَ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَعْدَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ: اعْلَمُوا بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ الحَنِيفَ جَاءَ بِمُرَاعَاةِ المَصَالِحِ، وَبِدَرْءِ المَفَاسِدِ، وَذَلِكَ بِنَاءً على القَاعِدَةِ العَظِيمَةِ التي قَالَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدَاً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».
يَا عِبَادَ اللهِ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 8/ رجب /1437هـ، الموافق: 15/نيسان / 2016م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد
فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد