.
496ـ خطبة الجمعة: مراقبة الله تعالى وقاية من كل سوء
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: عَيْنُ اللهِ تعالى تُلَاحِقُ العَبْدَ أَيْنَمَا حَلَّ وَارْتَحَلَ؛ عَيْنُ اللهِ تعالى تُلَاحِقُ العَبْدَ في خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ، وَفِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَالعَبْدُ المُؤْمِنُ على يَقِينٍ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: مَنِ اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ صَارَ تَقِيَّاً للهِ تعالى ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، بَلْ كَانَ بَاطِنُهُ خَيْرَاً مِنْ ظَاهِرِهِ، وَخَلْوَتُهُ خَيْرَاً مِنْ جَلْوَتِهِ، وَتَمَثَّلَ قَوْلَ القَائِلِ:
إِذَا مَـا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمَاً *** فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً *** وَلَا أَنَّ مَـا يَـخْـفَـى عَـلَـيْـهِ يَـغِـيبُ
مُرَاقَبَةُ اللهِ تعالى وِقَايَةٌ مِنْ كُلِّ سُوءٍ:
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مُرَاقَبَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وِقَايَةٌ للعَبْدِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ؛ مَرَاقَبَةُ اللهِ تعالى تَجْعَلُ اليَدَ مُسْتَقِيمَةً، فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْرِقَ فَضْلَاً عَنِ القَتْلِ؛ وَتَجْعَلُ اللِّسَانَ مُسْتَقِيمَاً، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِسُوءٍ فَضْلَاً عَنِ الكُفْرِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ؛ وَتَجْعَلُ الرِّجْلَ مُسْتَقِيمَةً، فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَـمْشِيَ إلى سُوءٍ؛ وَتَجْعَلُ الجَوَارِحَ كُلَّهَا مُسْتَقِيمَةً، فَلَا تَعْصِي اللهَ تعالى أَبَدَاً.
يَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: اجْعَلْ مُرَاقَبَتَكَ عَمَّنْ لَا تَغِيبُ عَنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ، وَاجْعَلْ شُكْرَكَ لِمَنْ لَا تَنْقَطِعُ نِعَمُهُ عَنْكَ، وَاجْعَلْ طَاعَتَكَ لِمَنْ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَاجْعَلْ خُضُوعَكَ لِمَنْ لَا تَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ.
«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»:
يَا عِبَادَ اللهِ: أَهْلُ المُرَاقَبَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ هُمْ خِيَارَ خَلْقِ اللهِ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَهُمُ الصَّفْوَةُ المُخْتَارَةُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ أَرْبَابُ البَصَائِرِ الذينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ تعالى بِالمِرْصَادِ لِأَهْلِ المَعَاصِي.
أَهْلُ المُرَاقَبَةِ للهِ تعالى هُمُ الذينَ دَخَلُوا مَقَامَ الإِحْسَانِ، مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَهْلُ المُرَاقَبَةِ للهِ تعالى هُمُ المَحْبُوبُونَ عِنْدَ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ دَخَلَ مَقَامَ المُرَاقَبَةِ صَعُبَتْ عَلَيْهِ المَعْصِيَةُ، وإلا هَانَتْ عَلَيْهِ المَعْصِيَةُ؛ هَذِهِ امْرَأَةُ العَزِيزِ غَفَلَتْ عَنِ اللهِ تعالى، وَغَابَتْ مُرَاقَبَتُهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ كَانَتِ النَّتِيجَةُ خِيَانَةً عَظِيمَةً ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾.
وَلَكِنْ مَنْ دَخَلَ المُرَاقَبَةَ هَلْ يَجْتَرِئُ على الكَبِيرَةِ؟ مَعَاذَ اللهِ تعالى؛ لِذَلِكَ كَانَ جَوَابُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مُرَاقَبَةَ البَشَرِ للبَشَرِ قَاصِرَةٌ، أَمَّا مُرَاقَبَةُ اللهِ تعالى فَهِيَ مُرَاقَبَةٌ كَامِلَةٌ وَمُطْلَقَةٌ، فَلْنُسْقِطْ مُرَاقَبَةَ المَخْلُوقِينَ وَجَمِيعِ الكَائِنَاتِ مِنْ حِسَابِنَا، وَلْنَجْعَلْ مُرَاقَبَةَ اللهِ تعالى هِيَ الأَسَاسُ، لِأَنَّ الحِسَابَ على اللهِ تعالى.
تَذَكَّرُوا يَا شَبَابَ الأُمَّةِ وَيَا شَابَّاتِ الأُمَّةِ، بِأَنَّ اللهَ تعالى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ السِّرَّ وَالعَلَانِيَةَ ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
لِيُذَكِّرْ كُلٌّ مِنَّا نَفْسَهُ بِقَوْلِ القَائِلِ:
وَإِذَا خَــلَـوْتَ بِـرِيبَةٍ في ظُلْمَةٍ *** والنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إلى الطُّغْيَانِ
فَاسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا *** إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي
إِذَا كَانَ العَبْدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تعالى لَا يَرَاهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَإِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَرَاهُ فَلِمَ جَعَلَهُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ؟
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَشْيَتَكَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 19/ رمضان /1437هـ، الموافق: 24/حزيران / 2016م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد
هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد
هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد
لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد