10ـ الموت وحقيقته

10ـ الموت وحقيقته

10ـ الموت وحقيقته

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

المَوْتُ وَحَقِيقَتُهُ:

قَالَ الإِمَامُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ عَرَبِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اعْلَمْ أَنَّ المَوْتَ عِبَارَةٌ عَنْ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ الجَسَدَ الذي كَانَتْ بِهِ حَيَاتُهُ الحِسِّيَّةُ، وَهُوَ طَارِئٌ عَلَيْهَا بَعْدَمَا كَانَا مَوْصُوفَيْنِ بِالاجْتِمَاعِ؛ الذي هُوَ عِلَّةُ الحَيَاةِ.

وَقَالَ أَيْضَاً: وَالمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنِ الانْتِقَالِ مِنْ مَنْزِلِ الدُّنْيَا إلى مَنْزِلِ الآخِرَةِ وَمَا هُوَ ـ أَيْ: لَيْسَ هُوَ ـ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ الحَيَاةِ مِنْهُ في نَفْسِ الأَمْرِ، وَإِنَّمَا اللهُ تعالى أَخَذَ بِأَبْصَارِنَا فَلَا تُدْرِكُ حَيَاتَهُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ في الشُّهَدَاءِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، وَنُهِينَا أَنْ نَقُولَ فِيهِمْ أَمْوَاتٌ، فَالمَيْتُ عِنْدَنَا يَنْتَقِلُ وَحَيَاتُهُ بَاقِيَةٌ لَا تَزُولُ، وَإِنَّمَا يَزُولُ الوَالِي ـ وَهُوَ: الرُّوحُ ـ عَنْ هَذَا المُلْكِ ـ أَيْ: التَّصَرُّفُ في الجِسْمِ الذي وَكَّلَهُ اللهُ تعالى بِتَدْبِيرِهِ أَيَّامَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ـ.

قَالَ: وَالمَيْتُ عِنْدَنَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَيٌّ، وَإِنَّمَا تَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَيٍّ جَهْلَاً مِنْكَ، وَوُقُوفُكَ مَعَ بَصَرِكَ، وَمَعَ حُكْمِكَ في حَالِهِ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالمَوْتِ، مِنْ حَرَكَةٍ وَنُطْقٍ وَتَصَرُّفٍ، وَقَدْ أَصْبَحَ مُتَصَرَّفَاً فِيهِ لَا مُتَصَرِّفَاً.

ثُمَّ قَالَ: فَالمَوْتُ انْتِقَالٌ خَاصٌّ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ إلخ. اهـ.

وَقَالَ الإِمَامُ حُجَّةُ الإِسْلَامِ الغَزَالِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَلِ الذي تَشْهَدُ لَهُ طُرُقُ الاعْتِبَارِ، وَتَنْطِقُ بِهِ الآيَاتُ وَالأَخْبَارُ، أَنَّ المَوْتَ مَعْنَاهُ تَغَيُّرُ حَالٍ فَقَطْ، وَأَنَّ الرُّوحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الجَسَدِ: إِمَّا مُعَذَّبَةٌ، وَإِمَّا مُنَعَّمَةٌ.

وَمَعْنَى مُفَارَقَتِهَا الجَسَدَ: انْقِطَاعُ تَصَرُّفِهَا عَنِ الجَسَدِ، بِخُرُوجِ الجَسَدِ عَنْ طَاعَتِهَا، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ آلَتْ للرُّوحِ تَسْتَعْمِلُهَا، حَتَّى إِنَّهَا ـ الرُّوحَ ـ لَتَبْطِشُ بِاليَدِ، وَتَسْمَعُ بِالأُذُنِ، وَتُبْصِرُ بِالعَيْنِ، وَتَعْلَمُ حَقِيقَةَ الأَشْيَاءِ بِالقَلْبِ، وَالقَلْبُ هَهُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الرُّوحِ ـ أَيْ: القَلْبُ الرُّوحَانِيُّ لَا القَلْبُ الصَّنَوْبَرِيُّ الجِسْمَانِيُّ ـ وَالرُّوحُ تَعْلَمُ الأَشْيَاءَ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ آلَةٍ.

ثُمَّ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَكُلُّ مَا هُوَ وَصْفٌ للرُّوحِ بِنَفْسِهَا فَيَبْقَى مَعَهَا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ الجَسَدَ، وَمَا هُوَ لَهَا بِوَاسِطَةِ الأَعْضَاءِ تَتَعَطَّلُ بِمَوْتِ الجَسَدِ، إلى أَنْ تُعَادَ الرُّوحُ إلى الجَسَدِ. اهـ.

كَلِمَاتٌ حَوْلَ الرُّوحِ الإِنْسَانِيِّ:

أولاً: أَمَّا حَقِيقَةُ الرُّوحِ الإِنْسَانِيِّ فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ الجَوَابَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلَاً﴾.

وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ في مَكَّةَ، سَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنِ الرُّوحِ، كَمَا روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُود: أَعْطُونَا شَيْئَاً نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ.

فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ.

فَنَزَلَتْ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلَاً﴾.

ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إلى المَدِينَةِ، سَأَلَهُ اليَهُودُ عَنِ الرُّوحِ، كَمَا جَاءَ في: (الصَّحِيحَيْنِ) وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَوَكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ اليَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ ـ أَيْ: سَلُوا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الرُّوحِ.

فَقَالَ: ـ أَيْ: بَعْضُهُمْ ـ مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَاـ أَيْ: لَا تَسْأَلُوهُ ـ لَا يُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ ـ أَيْ: وَذَلِكَ يُغِيظُكُمْ بِمَعْرِفَتِهِ الجَوَابَ ـ .

فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ.

فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئَاً.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الوَحْيُ قَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾) الآيَةَ.

وَالمُرَادُ بِالرُّوحِ هُنَا الرُّوحُ الإِنْسَانِيُّ، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اليَهُودَ قَالُوا للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ، وَكَيْفَ تُعَذَّبُ الرُّوحُ التي في الجَسَدِ، وَإِنَّمَا الرُّوحُ مِنَ اللهِ؟ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ الآيَةَ.

وَالمَعْنَى ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ أَنَّ الرُّوحَ مِنْ عَالَمِ الأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ اللَّطٍيفِ، وَذَلِكَ أَنَّ هُنَاكَ عَالَمَاً يُسَمَّى عَالَمَ الأَمْرِ، وَعَالَمَاً يُسَمَّى عَالَمَ الخَلْقِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ وَالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ.

فَعَالَمُ الخَلْقِ هُوَ: خُلِقَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالى لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنْ مِنْ مَادَّةٍ، وَيَجْرِي عَلَيْهَا التَّرْكِيبُ وَالتَّطْوِيرُ وَالتَّوَالُدُ، وَذَلِكَ كَجِسْمِ الإِنْسَانِ المَخْلُوقِ مِنْ تُرَابٍ.

وَأَمَّا عَالَمُ الأَمْرِ فَهُوَ: مَا خُلِقَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ اللهِ تعالى لَهُ: كُنْ، دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ وَلَا تَطْوِيرٌ وَلَا تَوَالُدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذَا الرُّوحُ الإِنْسَانِيُّ.

فَالإِنْسَانُ فِيهِ مَجْمَعُ العَالَمَيْنِ: فَجِسْمُهُ مِنْ عَالَمِ الخَلْقِ الكَثِيفِ المَادِّيِّ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الأَمْرِ اللَّطِيفِ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ محرم /1441هـ، الموافق: 26/ أيلول / 2019م

 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

11-01-2024 131 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 131
29-12-2023 144 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 144
14-12-2023 156 مشاهدة
58ـ عالم الحوض

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾. في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ... المزيد

 14-12-2023
 
 156
28-09-2023 453 مشاهدة
57ـ لواء الحمد

لَقَدْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ أَلْوِيَةِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَاسِعًا كُلَّ السَّعَةِ، يَأْوِي ... المزيد

 28-09-2023
 
 453
16-09-2023 425 مشاهدة
56ـ حشر كل إنسان مع محبوبه

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 16-09-2023
 
 425
25-07-2023 251 مشاهدة
55ـ طول الموقف يوم القيامة

قَالَ تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * ... المزيد

 25-07-2023
 
 251

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3154
المكتبة الصوتية 4763
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412014002
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :